د. نصار عبدالله يكتب: ماسبيرو زمان.. قناة الزمن الجميل
منذ شهور كنت كعادتى أتنقل بالريموت بين القنوات الفضائية دون أن أستقر على واحدة منها حين عثرت بالمصادفة على قناة اسمها «ماسبيرو زمان»،.... وكان واضحا من الاسم أنها تعرض تراث التليفزيون المصرى حينما كان الإرسال مازال فى مرحلة الأبيض والأسود، وسرعان ما جذبتنى تلك القناة، فأصبحت هى قناتى المفضلة التى أقضى أمامها كل أو أغلب ما خصصته من وقتى لمشاهدة برامج التليفزيون..بل إنها بعد أن استهلكت ذلك النصيب أو أغلبه بدأت تجور على جانب من الوقت المخصص للقراءة!، قبل أن أتدارك نفسى بقرار صارم وأنسحب عائدا بسلام إلى قواعدى الرئيسة الأصلية التى كانت ومازالت هى الأوراق، وفى المقدمة منها الكتاب المطبوع!!.. أما السر فى ذلك الانجذاب الشديد إلى ماسبيرو زمان فهو لا يرجع فقط إلى النوستالجيا التى يشعر بها عادة من هو فى مثل عمرى (أكثر من سبعين عاما) إزاء كل ما يذكره بأيام الصبا والشباب، ولكنه فيما أتصور راجع إلى أن التليفزيون المصرى قد قدم فى تلك الحقبة من تاريخه ما يمكن أن يوصف على كل الأصعدة بأنه روائع، وأن ما قدمه بعد ذلك لا يمثل صعودا ولا حتى ثباتا على المستوى الفنى الرفيع إلا فى حالات استثنائية نادرة، لا أتكلم هنا عن التكنولوجيا فقد تطورت تلك الأخيرة تطورا مذهلا، ولكنى أتكلم عن الفن الذى يتمثل فى جانب منه على كيفية استخدام ما هو متاح من التكنولوجيا أكفأ استخدام ممكن، وأتكلم قبل ذلك عن الموهبة الفردية وعن الفكر والثقافة التى كانت تنم عنها بوضوح رموز الإعلام التليفزيونى فى تلك الحقبة التى سنسميها مؤقتا حقبة: «ماسبيرو زمان»، والتى ما هى فى الحقيقة إلا جزء من بيئة فنية وثقافية أوسع تتسم بدورها بأنها كانت حافلة بالرموز العملاقة فى كل المجالات .. كان من الطبيعى جدا أن نجد رمزا إعلاميا كبيرا مثل طارق حبيب وهو يستضيف شاعر او فنانا عبقريا مثل صلاح جاهين أو إعلامية مثقفة مثل ليلى رستم وهى تجمع فى ضيافتها بين طه حسين ونجيب محفوظ وعبدالرحمن بدوى، وكان من الطبيعى جدا كذلك أن يعرض التليفزيون أعمالا مسرحية رفيعة المستوى مصرية المؤلف مثل سكة السلامة لسعد الدين وهبة، أو الزوبعة لمحمود دياب، أو مترجمة مثل علماء الطبيعة لفريدريك دورينمات ...فى تلك الحقبة كانت آثار التعليم الجيد مازالت باقية، ولم يكن التعليم المتدهور قد بدأ يتسلل إلى نظامنا التعليمى، أو أنه كان قد بدأ قى التسلل ولكنه لم ينتج آثاره السيئة بعد، كان لدينا المبدعون المتعلمون تعليما جيدا والذين يعملون دائما على استكمال معرفتهم بما يحصلونه بأنفسهم من منابع الثقافة، وكان لدينا المتلقى الجيد والناقد الجيد، ووجودهما شرط ضرورى لوجود المبدع الجيد، وكل تلك النماذج حصاد فى النهاية لنفس المنبع وهو النظام التعليمى ذو الكفاءة العالية الذى يستمد جزءا أساسيا من كفاءته من غرسه وتأكيده لقيمة تحصيل الثقافة من منابعها المختلفة وعدم الاكتفاء بما تقدمه مناهج التعليم فى المؤسسات التعليمية الرسمية .. فى تلك الحقبة كان من الصعب جدا أن تجد مثلما تجد الآن مذيعا فى برنامج حوارى أوحتى قارئ نشرة أو مجرد مذيع ربط أقرب ما يكون إلى الأمى أو شبه الأمى، ومن نافلة القول أن نشير إلى أن مثل ذلك النموذج كان يصعب فى تلك الحقبة وجوده بين ضيوف التليفزيون الذين يفترض أنهم كتاب أومبدعون أو (خبراء استراتيجيون) مثل أولئك الذين يجثمون على أنفاسنا هم (ومقدموهم أيضا) فى الكثير من برامج هذه الأيام!