الإسراء وتعظيم قدر فلسطين
شهدت رحلة الإسراء والمعراج تعظيمًا خاصًّا لأرض فلسطين؛ فالقسم الأول من الرحلة، وهو الإسراء، تمَّ إلى هذه الأرض المباركة، وزار الرسول صلى الله عليه وسلم فيها بيت المقدس، ومشى على أرضها، وأمَّ فيها الأنبياء، وسلَّم فيها على مالك خازن النار، وشرب فيها اللبن، وزار موطن ميلاد عيسى عليه السلام في بيت لحم وصلَّى هناك ركعتين، وصار المسجد الأقصى في تاريخ المسلمين هو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضيف بذلك إلى شرفه القديم شرفُ هذه الزيارة، والمسجد الأقصى له فضائل جمَّة، فهو ثاني مسجد على الأرض؛ روى مسلم عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الأَقْصَى". قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ".
والمسجد الأقصى هو قِبلة المسلمين الأولى. روى البراء رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا"، والصلاة فيه بخمسمائة صلاة على خلاف بقية المساجد في الدنيا؛ روى البزار -بإسناد حسن- عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فَضْلُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلاَةٍ، وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلاَةٍ، وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلاَةٍ".
وأجاز الرسول صلى الله عليه وسلم السفر إليه وإلى المسجدين الحرام والنبوي، ولم يُجزه إلى غيرها؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى"، ولم يجعل الله تعالى بركة المسجد الأقصى فيه فقط؛ بل جعلها حوله كذلك، وذكر ذلك عندما أشار إلى قصة الإسراء؛ قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، وسمَّى الله سبحانه أرض فلسطين بالأرض المباركة، قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]، وقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81]، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأرض في أحاديث كثيرة؛ روى ابن ماجه وغيره -بإسناد صحيح- عن ميمونة رضي الله عنها، مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قال: "أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلاَةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ". قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ؟ قال: "فَتُهْدِي لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ".
وروى أحمد -بإسناد صحيح- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلاَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ"، بل وسَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم دائرة البركة حول المسجد الأقصى فلم يشمل بها فلسطين فقط؛ بل ضمَّ إليها الشام كله! روى أبو داود -بإسناد صحيح- عَنِ ابْنِ حَوَالَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيَصِيرُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ". قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ رضي الله عنه: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ. فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ"، وروى أحمد -بإسناد صحَّحه الألباني- عن سَلَمَةَ بْنَ نُفَيْلٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ إِنَّ عُقْرَ دَارِ المُؤْمِنِينَ الشَّامُ".
جاءت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس لتدعم كل هذا الزخم العظيم من الآيات والأحاديث.
والسؤال: لماذا كل هذا التكريم لأرض فلسطين؟!
لقد اختار الله هذه الأرض -لحكمة لا يعلمها إلا هو- ليجعل فيها معظم أنبيائه؛ فعاش فيها أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعاش فيها كذلك إسحاق ويعقوب عليهما السلام، وقضى فيها يوسف عليه السلام طرفًا من حياته، ورغب في الدخول إليها موسى وهارون عليهما السلام؛ لكن خذلتهم بنو إسرائيل، ودخلها وعاش فيها يوشع بن نون عليه السلام، ثم تبعه هناك داود وسليمان عليهما السلام، وكذلك زكريا ويحيى عليهما السلام، ثم شهدت هذه الأرض ميلاد عيسى عليه السلام، وحياته فيها إلى أن رفعه الله إليه.
هذه قصة الأرض المباركة فلسطين؛ يُعظِّمها اليهود، ويُقدِّسها النصارى، وتَطمع فيها أمم الأرض من بابليين، وآشوريين، وفرس، ومقدونيين، ورومان، ويسعى لاحتلالها العبيديون، فالصليبيون، فالصهاينة. هي أرض يُقَدِّرها أهل الأرض جميعًا، وكان لا بُدَّ للمسلمين من شيء خاصٍّ يربطهم بهذه الأرض التي عَظَّمَها الله تعالى، فكانت القِبلة الأولى، ثم كانت المسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد أراد الله أن يُلْقي محبة هذا البلد في قلوب المسلمين المؤمنين؛ لأنه سبحانه يعلم أنها ستظل بؤرة صراع إلى يوم القيامة، وستظلُّ الطوائف المختلفة من أهل المشرق والمغرب يطمعون فيها، فكان لا بُدَّ من رفع قيمتها حتى تظل حماسة المسلمين متَّقدة للدفاع عنها، والتضحية من أجلها؛ لهذا كانت القِبلة، وكانت المسرى، ولعلها صارت مقياسًا لإيمان الأمة، فإذا علا إيمانهم كبرت في عيونهم قضية فلسطين؛ ومن ثَمَّ كل قضايا المسلمين، وإذا قلَّ إيمانهم هانت عليهم هذه القضية، وسيكونون إلى التفريط في غيرها أقرب؛ فهي بذلك معيار ناجح نرصد به درجة إيمان الأمة.