د. رشا سمير تكتب: "أمطار صيفية".. رواية صوفية تواجه السلفيين وتطرق باب السماء
حين يتكالب البشر على الماديات وتلهيهم مطامعهم عن الروحانيات، يفقدون الثوابت وتتحول الأماكن بين ضلوعهم إلى أطلال وفى نفوسهم إلى خرابات.
وتظل علاقة الحب والسمو الوحيدة هي علاقة الانسان بربه، فحين يتوجه البشر إلى عشق الله الخالص تطفو حالة من الإرتقاء بالأنفس على الناس لتحول مطامعهم إلى زهد وورع.
بإختصار، تلك هي الصوفية بمعناها الحقيقي، وتلك هي الحكاية التي تتناولها رواية القاص الشاب أحمد القرملاوي الصادرة عن مكتبة الدار العربية للكتاب في ٢٢٠ ورقة من القطع المتوسط.
الراوى واليقين:
تُحكى الرواية على لسان راوي عليم يبدو أنه الشخص الذي تترابط عنده كل الخيوط، إنه صديق لكل الأشخاص ويحكي عنهم لأنه شاهد عن حكاياهم.
الرواية تدور بين أروقة وكالة الموصلي، وتبدأ بإلقاء الضوء عن الشخص الذي سميت الوكالة بإسمه.
وهو احد شيوخ الطرق الصوفية التي أنشأها الشيخ عبادة الموصلي منذ ما يقرب من سبعة قرون، حين كانت هذه الطريقة تُمارس بداخل وكالة تاريخية ترجع إلى عصر المماليك، ازدهرت وقتها كمدرسة لتعليم العزف على العود، أنشأها وأقام فيها الشيخ الموصلي، وكان يصنع فيها الأعواد، ويُعلم مريديه فن العزف على العود.
ويلقي الكاتب الظلال على الموضوع من خلال كلماته في بداية الرواية:
(سريعًا ما سيقُصُّ عليك أحدهم تاريخ الموصليّ، الذي كان صانعَ أعواد، قبل أن يصير إمامًا صوفيًّا في زمن لاحق. سيحكي لكَ كيف شرُفت مدينة الموصل بمولده، تلك التي أنجبت من قبله نبي الله يونس، كما أنجبت أفذاذ الموسيقيين في أزهى عصور الحضارة، لذلك أسماها العرب بالموصل، كونها ملتقًى يوصِل الشرق بالغرب).
سيقول لكَ إن أباه كان صانعَ أعواد عُرِف بالمهارة والورع، وسقى ولده الفنَّ والصنعة، كما زكّاه بالإيمان. شَبَّ الصبي «عبادة» على محبة العود والألحان، وابتدع في سنٍّ صغيرة مقامات موسيقية لها العجب، لم يعرفها أهلُ زمانه ولم يُقَم لها وزنٌ في حينها، فقد سادَ في زمانه الوغى والصراخ، واندهس الناس أسفل أحذية جلدية مُلطَّخة بالدماء، وسنابك خيلٍ حادة كالنصال، حيث وافقت تلك الأيام البائسة زحف المغول على الموصل؛ «تيمورلَنك» وأشياعه.
صراع الخير والشر:
تدور الرواية حول الصراع التقليدى الذى طالما إهتم به الروائيون والسينمائيون..تتناول الرواية الحكايات الإنسانية للبشر الذين يعيشون في حضن الوكالة والمترددين عليها.
«ذاكر رسلان» المُلقب بالأستاذ آخر شيوخ الوكالة والقائم على أعمالها، والذي يقرر أن ينقل عهدته إلى تلميذه الحذق النابغة «يوسف» الذي سرعان ما يقع في غرام إبنته الجميلة «رحمة»، في الوقت الذي يسعى إلى إنجاز رسالته في الماجستير عن الموسيقى العربية.
في حين تظهر في الصورة وتحوم حوله «زينة ديناري» المصرية الألمانية التي تحترف الموسيقي وتسعى من خلال خطة خفية في أن تحقق أحلامها في تحويل الوكالة إلى مركز فني بمواصفات عالمية وهي تعلم جيدا أن ذلك لن يكون إلا بمساعدة يوسف..فتسعى في تشكيكه في الأصل التاريخي للطريقة الموصلية من أجل الوصول إلى هدفها.
على الصعيد الآخر نجد ذلك الشاب «زياد» الذي يدلف إلى الوكالة بائعًا يبحث عن فرصةٍ لتحقيق أحلامها تتداخل الشخصيات لتصنع نسيجا فذا من الأحداث.
ويلقي القرملاوي الضوء على الصراع الخفي بين البشر والذي يدور في النفوس من يوسف وزينة إلى رحمة وغيرهما.
حتى يرسم صورة لقمة الطمع الانساني على يد فئة السلفيين دعاة الدين الزائف الذين يصنفون الوكالة على أنها مكان للرذيلة والانحلال ويطمحون أيضا في الإستيلاء على مفاتيح الوكالة ليخلصونها من أيدي السفهاء من وجهة نظرهم.
المهندس الراوى:
أحيانا تصبح مهنة الروائي أو دراسته إما سببا في تحويل قلمه إلى أداة جافة للوصف وإما أن تضيف لقلم الروائي فتمنحه مساحة أكبر للوصف.
وفي حالة الروائي أحمد القرملاوي المهندس الشاب الذي درس الهندسة، تضيف دراسته لقلمه فتمنحه الأدوات اللازمة للوصف الدقيق وتصبح الحروف بين يديه منمنمات الحكي..ففي مواقف كثيرة جعلني أعيش في قلب الصورة وأرى الحدث بكل دقة وسلاسة..كالصورة التالية:
(اليوم عمل دؤوب، يوم تنصيب موجه جديد للطريقة الموصلية التي أنشأها الشيخ عبادة، فعبرت الأزمنة فوق كواهل موجهيها المُخلصين حتى وصلت ذاكر رسلان، الوريث الأخير للشيخ الموصلي وهاهو اليوم يسلمها لوريث جديد، ستجد الشيخ ذاكر واقفا بنفسه يتوسط صحن الوكالة وقد شمر عن ساعدين مديدين قويين، رغم ما يتعلق بهما من زغب أبيض، يدفع العمال هنا وهناك ويتابع التجهيزات بعينين لامعتين، لا تكترثان لما تجاسر عليهما من تجاعيد، فيما تلاحقه إبنته رحمة الرهيفة الحالمة، ذات القوام المرهف والبسمة الأبدية وتجد في ضيافة العمال كما في متابعة أبيها).
إهداء محير:
في مقدمة للرواية لم أفهمها فى حينها، وفى تداخل ظهر أبعاده فقط فى منتصف الصفحات، تظهر رسائل أو مداخلات من الصوت الذى لم أفهم وجوده في بداية الرواية وهو يهدى الرواية إلى الناشر الذى أتاح له الوقت والفرصة ليكتب وينشر..وفهمت فى منتصف الرواية أن هذا الشكر أو الإهداء هو بصوت الراوى العليم الذى تظهر ملامح شخصيته فيما بعد وهو زينة الألمانية المصرية التى تحاول تحويل الوكالة إلى مركز موسيقى عالمى ولا تكل من محاولات أن تخطف يوسف من رحمة.
تقول زينة:
(إلتزمت الصبر والحياد حين تعلق الأمر بصورتى الشخصية، أى أن يقدمنى الراوى بطريقة أو بأخرى فى صورة مغايرة لحقيقتى، فجعلكم تعتقدون أننى أستميل يوسف نكاية فى نصف أختى، أو إستنهاضا لنموذج قديم أعجبنى فى والدى..ولكن هذا يعود لأسباب شخصية وليس نكاية فى أحد..أعجبنى يوسف، هذا صحيح، وخذه طريقتى فى التعبير عن إعجابي الإنسانى، حاولت إحتضانه، وأثارت فينا أجواء الوكالة الرومانسية مزيدا من الرغبة فى إحتضان حميمي، ولكن يوسف المسكين نظرا لثقافة الكبت التى كان ينتمى إليها شعر بالفزع حين وجد في نفسه الرغبة فى إقامة علاقة معى).
وتوقع زينة لأول مرة فى نهاية الخطاب أو المداخلة بإسمها: زينة كوهلر (الممثل القانونى لمركز موصلى لموسيقى الجاز والتكنو الشرقية)
نهاية الصراع الحتمية:
وكعادة الصراعات، وكعادة تكالب البشر على الأشياء، وكعادة أن تنزوى الأشياء الجميلة وتتسيد القبيحة..تشتد الصراعات على وكالة الموصلى التى تمثل فى الرواية قلب الخير..لتحترق شكلا وموضوعا وتبتلعها ألسنة النار التى هى قوى الشر التى تصعد من حدة الصراع وتقفز فوق الأشياء والبشر لتلتهم الغالى والنفيس.
ويقف يوسف حائرا أمام النيران وهى تتصاعد فى محاولة إلهاء قلبه المسكين عن الصراخ بدموع عينيه التى تسقط على زوال الدنيا الجميلة التى راحت منه بين عامود الدخان المتصاعد فى سرعة شديدة..
القرملاوى ما له وما عليه:
لا يسعنى فى نهاية العرض إلا أن أثنى على قلم القرملاوى لما يحمل من دقة فى الوصف، والإشادة أيضا بفكرة الرواية التى أعتبرها وبكل تأكيد فكرة من خارج الصندوق، لأن الحقيقة وفى هذه الأيام أصبح من الأسهل أن يكتب الروائيون عن الحب والكره والطلاق والجنس، وهى الأشياء التى عادة ما تضع الروايات على قوائم الأكثر مبيعا أما ما قدمه القرملاوى فهو محاولة جادة لعرض فكرة مختلفة إمتلك بها مساحة كبيرة للحكى، جعلت روايته فريدة بشكل كبير.
ولكن إستوقفنى ضآلة حجم الرواية، وهى التى أعتقد أن بها خيوط كثيرة ومواضيع فرعية كان من الممكن أن يأخذ القارئ إلى ساحتها بكل سلاسة وهدوء.
هل كان حجم الرواية بسبب التخوف من المبيعات ونوعية القراء التى لا تبحث سوى عن التيك أواى؟ أم أن نفس الروائى كان قصيرا فسرعان ما تسلل الملل إلى أصابعه؟.
أرى أيضا أن وجود الإهداء الغريب نوع ما فى بداية الرواية لم يكن له مكان فى البداية ولربما إكتفى الكاتب بمداخلات زينة أو خطاباتها للقارئ فى منتصف الصفحات، لأن تصدر الرواية بهذا الشكل خلق نوع من التشتيت للمتلقى.. هذا مجرد رأى قارئ وليس بإنقاص من حق الروائى.
وبغض النظر عن هذه الملحوظات البسيطة إلا أننى أرى أنها رواية جيدة ومختلفة تستحق القراءة، بل وأعتقد أنها رواية جيدة تخاطب نوعية القارئ الذى يبحث عن الإختلاف والذى يمتلك الحاسة السابعة.. حاسة التذوق الأدبي..