الفطام النفسي.. أزمة في الطفولة والمراهقة
يتصور الرضيع بداية أنه مازال متصلاً بأمه، ولا يبدأ في إدراك أنهما كائنان منفصلان إلا عند سن السنة ونصف تقريباً، حيث تحدث الولادة النفسية، ويخرج من الرحم النفسي الذي جمعه بأمه منذ ولادته، وهذه الولادة النفسية والفطام النفسي يمثلان أهمية قصوى لتوكيد الاستقلال النفسي للأبناء ذكوراً كانوا أو إناثاً، وهما أكثر أهمية للذكور لتوكيد استقلالهم النفسي، وللأم دور هام جداً في دعم هذه الولادة النفسية والفطام النفسي.
وهنا تحتاج كل أم أن تنظر بداخلها وأن تواجه نفسها بصدق وصراحة وأن تجيب على السؤال المحوري التالي: هل أنا أدعم الولادة النفسية لأبنائي؟ هل أنا حريصة على قطع الحبل السري الذي يربطهم بي؟ هل أنا قادرة على تحمل آلام المخاض النفسي والتي تفوق بمراحل آلام المخاض الجسدي المادي؟ وإذا لم تكوني قادرة على ذلك فما هي المعوقات التي تمنعك؟ وكيف يمكنك تجاوزها؟ فالولادة النفسية والفطام النفسي يمثلان أهمية قصوى لتوكيد الاستقلال النفسي للأبناء ذكوراً كانوا أو إناثاً، وهما أكثر أهمية للذكور لتوكيد استقلالهم النفسي.
قد يجد البعض أن الكلمات السابقة والتالية صادمة بعض الشيء، ولا يعني ذلك تنكرنا بأي صورة لجهد الوالدين المضني لتأمين حياة طيبة لأطفالهما، لكننا ندرك أن ما سنتكلم عنه من الممكن وقوعه بشكل لا واعٍ، ولذا فنحن لا نوجه اللوم، ولكن ندعو للتصحيح من الآن، وعدم إدراك الأشياء لا يعني أنها غير حقيقية، تماسك فقط وستجد في واقعك الشخصي أو واقع بعض معارفك مصداق هذه الأسطر التالية.
مراحل النمو والاستقلال
تابعت بشغف عرضاً وثائقياً لحياة البرية وأسلوب تربية الأسود والفهود، ما لفت انتباهي هو أن هناك ثلاث مراحل متمايزة في تنشئة الفهد الطفل:
- في المرحلة الأولى يكون الشبل معتمداً بالكلية على الأم.
- تليها مرحلة الإعداد للاستقلالية حيث يشارك الأشبال الأم في الصيد.
- ثم تليها مرحلة الاستقلال حيث ينفصل الأفراد الجدد عن القطيع، ولا تسمح لهم الأم بالتواجد داخله، ثم تتابعهم بنظراتها بينما يرحلون عنها، وكأنها تطمئن نفسها باكتمال مهمتها، لتبدأ دورة جديدة.
يختلف الأمر في الإنسان لكونه الكائن الأكثر اعتماداً وارتباطاً ببيئة التنشئة، وتصل فترة الاعتماد لقرابة العقدين من الزمان، وتطول بتقدم مستوى الرفاه، إلا أنه لا ينبغي أن ننسى دور التربية الذي فهمته هذه الأم البرية.
الولادة النفسية والحبل السري النفسي
لتسعة أشهر يتعامل الطفل وأمه على أنهما امتداد لبعضهما البعض، امتداد نفسي وعضوي، ويظل ذلك الإدراك مستمراً بعد الولادة، حتى تدرك الأم انفصاله عضوياً عنها بقطع الحبل السري الواصل بينهما، إلا أن الطفل يبدأ في إدراك ذلك بعد تمام عامه الأول حين يتطور لديه الذهن الخاص، يعني ذلك أن الطفل يتعامل مع الفطام على أنه بمثابة بتر له عن الجسد الكلي (الأم)، ولذلك ننصح بألا يتم الفطام إلا بشكل متدرّج وبطيء، ويرى المختصون بأن الولادة النفسية تحدث في عمر العام ونصف.
خطورة الحبل السري النفسي في عدم إدراك الأم له، وعدم مساعدتها في قطعه بالتدريج، فهي لا تزال في جزء من عقلها لا تريد أن تصدّق أنها آخر بالنسبة إليه، وبينما يميل الطفل في سن الثانية للاستقلال بنفسه في الطعام والشراب، ثم يميل في الرابعة إلى الانفصال عن الأم، ويحدث ذلك بشكل تدريجي، فيميل إلى اللعب حيث لا تكون في مجال رؤيته ثم لا يلبث أن يرجع كل فترة ليطمئن أنها لا تزال هناك، في ظهره إن احتاج المساعدة.
هنا قد لا تبارك بعض الأمهات هذا الانفصال، وتعمل بكل جهدها لتثبيط محاولات استقلال الطفل عنها، وقد تعود للتذمر من ذلك في مرحلة المراهقة بأنه لا يستطيع الاعتماد على نفسه، وأنه يحتاجها في كل شيء متجاهلة أنها من أجهضت محاولات استقلاله عنها في الطفولة، وهي مرحلة بدء الانفصال الطبيعية، وربما يكون تذمرها مراوغة أخرى لتذكيره بأهميتها له.
هناك نمط خطير من التعلق المرضي من الأم بابنها ما يسمى بالارتباط العاطفي به [زنا المحارم النفسي Emotional incest]، وهي حيلة أخرى تلعبها الأم لضم ابنها المنفصل إليها مرة أخرى، وهنا قد تتلاشى الحدود النفسية بل والمادية (عفواً أو بقصد) ما يضع الابن في مأزق نفسي تجاه المسؤولية المرضية التي تضعها الأم عليه لتعويضها عن الشريك غير المتواجد، أو لإشباع احتياجاتها الخاصة، أو لمداواة جراحها هي مع الزمن.
لكلّ ما سبق، نقول إن فهم الأم لعملية الفطام المادي والنفسي هو أمر في غاية الخطورة، وفهم دور التربية في دعم الاستقلال وتهيئة الفرد لاستكمال الحياة بدون المربي، لا أن تربيهم من أجل احتياجها الخاص، فتأمين المأكل والمشرب والمسكن والملبس هي أمور يمكن وصفها اصطلاحاً بالرعاية، وهي تختلف تماماً عن التربية التي هي بناء الفرد بتعليمه المهارات، وتضمينه القيم والقدوات، ورفع كفاءته الإنسانية، وإعداده لإعمار الحياة والإضافة للبشرية.