عبد السلام عبد الدايم يكتب : نسوة القرية ( 1 )
تنطَلقُ الشَائِعَاتُ في القرى كالمنَاطيدِ ولا أحَدَ يُعيدُها إِلى الأرضِ غير الزمنِ، ولن تفلتَ من فِكاكِهنَّ ما دمتَ تسمعُ؛ حتى بعد وفاتكَ سَتُحكَى مَآثرُكَ، وسَقطّاتُكّ للأَحفَادِ الذين يَتَولّونَ بدَورهِم إِعَادةَ إنْتاجِها من جَديدٍ؛ مُضيفينَ إِليهَا بعضَ الفلفلِ الحارِ والكاتشب.
تتدفقَ النَّظَرَاتُ بكلِّ طاقاتِهَا مذْ كُنَّ في المهدِ لم يجدْنَ جديدَا سوى أنهُنَّ يُحاصِرْنَ البشرَ والحجرَ. نَظَراتُهنَّ المُختَلَسَة تكشفُ بفراسَةٍ حادةٍ كُلَ شيء وكأنكَ خَضَعتَ لأشعةِ الرنينِ المطيَافي من دون أن تخْلعَ ملابِسَكَ وخَاتَمكَ وسَاعَتكَ، مُسلِطَّن الموجَات على كلِ خليةٍ في جَسَدِكَ بعنايَةٍ باحثَا عن الحَقيقَةِ، وربمَا تعدَّى الأمرُ لبحثِ حَالتِكَ النفسيةِ ورِضَاكَ عن عملِكَ وزَوجَتِك، هكذا كلُ شيء يظهَرُ من قَسَمَاتِ وَجهِكَ وتَعبيراتِ جَسَدِكَ ومِشيَتِكَ ونَبرِةِ صَوتِكَ حينَ تُلقَي عليهنَّ السَّلامَ.
لهن فائدة عظمى نغفل عنها أحيانا؛ ربما تُذكرك إحداهنَّ بأنَّك نَسِيتَ ربط حذائك أو تأخرِك عن عملك اليوم، وفي العودة تكون نظراتهن في انتظارك: ماذا تحمل معك؟ كم حبة فاكهة في حقيبتك؟ ألا قطع الله أيديكن وكف أبصاركن...
حينمَا تمرُ عليهنَّ وهنَّ جَالسَاتٌ أمامَ منَازِلهنَّ تَتَذكر التِفَافَ المِصريينَ حولَ الراديو أيامَ النكسَةِ (أسْقَطْنَا خَمْس طائراتٍ بطلقةٍ واحدةٍ، وفتحْنَا القُدسَ) فتهمسُ إحداهنَّ للأُخْرى:
- ابن مين ده يا أم فاروق؟
- ابن محمود عبد الدايم يا ست كوثر.
- ورايح فين ده يا أختي؟
وتَنطَلقُ من لَحظَتِهَا سِلسلةٌ لا نهائية عن سِيرَتِكَ وَسِيرةِ عَائِلتِكَ حتى الجدِ العَاشِرِ؛ لكنَّ الغَريبَ في الأمرِ أنَّ استشْهَادِهِنَّ بماضيك وماضي أقَارِبكَ يَخضَعُ لمِزَاجِهنَّ الخَاص فإنَّ رضِيتْ عنكَ إحدَاهُنَّ اسشهَدتْ بفعلٍ حَسَنٍ قامَ بهَ خَالُكَ أو عمُكَ مذْ كنتَ في المَهدِ، وأنَّكَ ماثَلتَهُ في الخُلُقِ، وإلاَّ استشهدتْ بمشاجرةٍ قديمةٍ حدثتْ بين عّائِلَتكَ وعائلةِ فلان على كوز ذرة تجرَّأ حمارُ الجيرانِ وأكلَهُ من أرْضكُم أثْنَاءَ مُرورِه من الحدِّ الفاصِلِ بينَكُما.
كمَا يمكنك أن تَعُد جلسَاتِهنَّ من قبيل الصالونات الثقافية فلا تخْلُو من آياتِ الذكرِ الحَكيمِ والأحَاديثِ النّبويةِ؛ لكنَّها لا تكادُ تخرجُ عن آياتِ حدِ الزِّنَا والمواريثِ، كما تلقي إحداهنَّ بعضَ أبيات الشعر والأمثال الشعبية التي ألقَتْهَا جدتُكَ على العائلةِ المهزومَةِ أثناءَ حربِ كوز الذرة....
اتْلموا الكلاب الجُرب واتْعَدوا
وقالوا: "احنا نعادي السبع ونعضه"
ونظرة من السبع إليهم-شوية هفايا-لا سدوا ولا مدوا.