ربيع جودة يكتب: رسالة الجندي
هو تجاوز الخميس.. أما هي فلا تزال تداعب العمر.. يبارزها بالسنين.. فتهزمه بنضرتها وجمال روحها.. فلا يبدو عليها أثره.. لكنها اليوم يراودها المرض ولا تشعر بارتياح.. فأقسم عليها الزوج البار .. ان يصطحبها للطبيب.. فمن له غيرها.. وهي زهرة العمر ورفيقة الدرب وقرة العين.. سارا معاً الي الطبيب وقد داوي الزوج بحنانه عليها ما لا يداويه ألف عقار.. فما عادت تحتاج إلى طبيب ولكنها تمضي معه براً لقسمه وحناناً عليه.. جلسا في ساحة الإنتظار يحيط وجهه القلق.. ويكسو وجهها ابتسامة تطمئنه بها.. حتي جاء دورهما.. ليقول الطبيب بعد فحص وإمعان.. لا شيء يدعو للقلق..وذكر الكلمات المعتادة سنمتنع تماماً عن الأسماك وغيرها.. خرج الزوج مبتسما بينما زوجته خالط وجهها الغضب.. قال ما الأمر.. قالت.. أريد أن اشتري سمك.. قال الزوج غاضباً سمك!!؟؟ قالت نعم وسرعان ما انعطفت منه يميناً الي السوق قاصدة بائع السمك.. وقالت بكم السمك يا عم.. والزوج يزمجر.. وهي تخاطب السماك وتحاوره أن يضع هذه ويترك تلك.. حتي انتهت المداولة الي كيس به الكثير من اطعمة البحر الشهية.. والزوج الحائر يعاتبها بنبرة غاضبة لكن تبعث على الضحك قائلاً.. (هوا الدكتور كتبلك علي سمك) .. ثم مضي يقلب كفيه الي البيت .. قالت له.. ماذا أفعل فيك وانت دائم النسيان.. قال.. نسيان ماذا.. قالت ولدك الغالي.. موعد اجازته اليوم من الجيش وطلب مني هذا الطعام.. سكت عن الزوج الغضب وجلس في ردهة الدار.. وهي طبيعة الفلاحين.. حتي أعدت الزوجة الطعام.. وجلست الي زوجها الذي شرع بالأكل.. أما هي فقد علا وجهها صمت وقد تأخر ولدها.. وهي تنظر من باب الدار الي الشارع الكبير.. وبين لحظة أو تكاد.. قامت ضاحكة الي الشارع.. تهرول وقد تناست هيبة العمر.. وكأنها في واحة العشرين.. حيث ولدها القادم من الجيش.. يحمل حقيبته علي كتفه الصلب.. وذراعه المفتول عليه رسمت عروقه المكتظة بالدماء توشك أن تخترق جلده.. يسير واثق الخطوة.. ورأسه المرفوع تحملها العزة.. وتحيطها الكرامة.. أسرعت الأم تكاد تطوي الأرض طياً.. أما الفتي فأمره اليوم عجيب.. فهو لا يسرع الخطي إليها كعادته.. حتي ساورها القلق.. وكلما اقتربت منه.. أبطأت حركتها.. فهي تري صورة ولدها غير أنها لا تجد رائحته.. فسقطت علي الأرض قبل أن تصل إليه.. فليس هذا بولدها.. أقامها الفتي واجتمع الناس.. يجلسونها.. ويشفقون عليها وقد فقدت وعيها.. حضر الأب مهرولا خلفها.. وأخذ بيد الجندي الباكي.. الذي يواجه الآن أصعب مما يواجهه في ساحة القتال.. كيف يقص عليهم الخبر.. نظر الأب إليه وهو يقسم علي قدميه أن تحملانه.. والجندي لا يجد في حلقه صوت.. فلا شيء الآن يُلفظ.. مد الجندي يده بورقة إلى الأب المكلوم.. هي كل ما تبقي من ولده.. ورقة من المفترض أنها تكافئ سنوات التعب والسهر علي ولده. حتي صار رجلاً يملأ العين.. ورقة مختومه بدماءه الطاهرة.. مكتوب عليها.. ان ولدك قد سطر بدماءه تاريخاً لوطنه.. ودفع بشبابه فداءا لبلده ودينه وعرضه.. سقط الأب علي الأرض وسط هرولة الناس يميناً وشمالاً.. يبكون ويصرخون.. وحملوا. أبويهم الي الدار.. حتي أقبل الليل ومعه ريايحين الجنه.. تهب من بين أشلاء الشهيد.. وقد أدركت النفس المطمئنة ماهية الحياة.. وكفت عين الأم الصابرة عن العويل.. تعلم أن ولدها يبيت عند ربه الليلة . وسكن فؤاد الأب الي إتمام الرسالة... ووقف صامدا في سرادق العزاء.. يستشعر مصافحة الملائكة.. أكثر مما يصافح الناس.. وصوت المكبرات يردد.. بل أحياء عند ربهم يرزقون
.