د. رشا سمير تكتب : اللحظة الفارقة

مقالات الرأي


اللحظة الفارقة فى حياة الأوطان هى تلك اللحظة التى يُكتب فيها للوطن أن يحيا أو يُقدر له فيها أن يموت.. هى اللحظة التى يقرر فيها الوطن أن يركض نحو النور أو يحبو داخل الأنفاق المُظلمة.. هى اللحظة التى يبحث فيها الوطن عن هوية فتكتُب شهادة ميلاده بدماء أبنائه أو تُكتب شهادة وفاته برماح أعدائه..

الدول بعد الثورات يُصبح أمامها أحد الخيارين، إما أن تختار دستوراً طويلاً قوياً بكل تفاصيله الصغيرة وإما أن تضع مبادئ فقط وتترك التفاصيل للقانون كى يحددها مثلما حدث فى تجربة مانديلا بجنوب إفريقيا..

أما الدستور المصرى الذى نحن بصدد الاستفتاء عليه فهو خليط من النظامين، لكونه دستوراً طويلاً يحتوى على عبارات مُبهمة وجمل إنشائية مطاطة بلا معنى مُحدد.

المادة 202 تنص على أن الرئيس يُعين رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية بعد موافقة مجلس الشورى لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ولا يعزلون إلا بموافقة أغلبية أعضاء المجلس.. هذه المادة تعنى استمرار أهم قاعدة للفساد فى نظام مبارك، وهى تبعية الأجهزة الرقابية للسلطة التنفيذية التى تأسست لرقابة تصرفاتها، ولذا سيصبح ولاء رؤساء تلك الأجهزة لمن جاء بهم بالتعيين وليس بالانتخاب، مما سيعوق من جديد مكافحة الفساد.

المادة 147 تنص على أن الرئيس يعين الموظفين المدنيين والعسكريين ويعزلهم ويعين الممثلين السياسيين للدولة ويقيلهم.. وهذه المادة تُعطى الرئيس هيمنة مُطلقة وتحكماً كاملاً فى التعيين والترقية فى كل مستويات الوظائف المدنية والعسكرية..لا تعليق!.

المادتان 10و11 هما البديل لعدم تعديل نص المادة 2 من الدستور وهما مادتان تُعطيان شرعية لإنشاء جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تحت مظلة دستورية، ووفقا لقوانين يصدرها برلمان الإخوان أو مجلس الشورى المُحصن، هذا بالإضافة للمادة 219 التى تتناول جواز الاستعانة بالمذاهب الفقهية..

فالمادة 10 تحول الدين من علاقة مباشرة لا وساطة فيها بين الإنسان وربه إلى علاقة تحت رقابة الدولة التى يُمكنها وفقا لهذا الدستور أن تسن القوانين لإلزام المجتمع بالقيم الأساسية وأولها الدين والأخلاق، الدولة بهذا تكون قد ألغت حرية الإنسان فى الاعتقاد وفى تأدية الشعائر الدينية بعد أن نصبت نفسها وصيا على تدين المواطنين، فى حالة حصول قوى الإسلام السياسى على الأغلبية فى البرلمان!..

المادة 10 (الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة والمجتمع على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية).. فما هو إذن الطابع الأصيل؟ ومن يحدده؟ وكيف يتم تعريفه؟..هل هو النقاب أم الحجاب أم الاعتدال؟. وفى نفس سياق المادة 10 تأتى المادة 11 التى تنص على أن الدولة ترعى الأخلاق والآداب والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية!..

المادة 15 لم تضع أى حد أقصى للملكية الزراعية لمنع سيطرة الإقطاع وحرمان الفلاحين من الأرض التى هم الأحق بها، إذن سيستمر مسلسل حرمان الفلاحين من الأرضى واستمرار الملكيات بآلاف الأفدنة لكبار المُلاك..كما لم تمنع ملكية العرب والأجانب للأراضى الزراعية، وهى هنا تتراجع عما تضمنه دستور 1971 بصدد هذا الشأن.

المادة 14 تنص على ربط الأجر بالإنتاج، فماذا عن عامل يعمل فى مصنع بكل طاقته، ثم يعجز المصنع عن توزيع منتجاته؟..

المادة 76 نصها (العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص دستورى أو قانونى، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى) عبارة ولاجريمة ولاعقوبة إلا بنص دستورى تفيد تفعيل المادة 2 فيما يتعلق بمبادئ الشريعة الإسلامية وتفسيرها الوارد فى المادة 219 وتجبر المُشرع على إصدار تشريع خاص لبيان جرائم وعقوبات الحدود، مثل حد الحرابة على السياسيين فى حالة الخروج على الحاكم، وهنا يجب أن أنوه إلى أن النص الدستورى لا يجوز أن يفرض عقوبات.

كان من المنصف إذن أن يتم اقتصار الاستفتاء على المصريين الحاملين لشهادات عُليا حتى نتجنب موقعة الزيت والسكر والورقة الدوارة.. وكان من الضرورى أن يكون هناك حد أدنى للحضور حتى يُصبح للدستور شرعية تليق بدستور مصر العظيمة.. ولكن حيث إن الأقدار تأتى أحيانا بما لا نُقدر، فأنا اليوم أدعو الجميع للنزول والاستفتاء وعدم التقاعس، فالسلبية لن تأخذنا إلا لنكسة جديدة.

من حقك أن تقول نعم ومن حقك أن تقول لا ولكن تذكر قبل أن تقول كلمتك بأنها تلك اللحظة الفارقة فى تاريخ مصر...