سليم الهوارى يكتب: إسلامية صوفية فى غرب الهيملايا
نجح الإسلام الكشميري بالاحتفاظ بسمته الصوفية ربما أكثر من أي مجتمع إسلامي في عالم اليوم،،جغرافيا وادي كشميرغرب الهيملايا، هي إلى حد كبير جغرافيا مشكّلة بحسب خارطة انتشار المقامات وأضرحة الأولياء الصالحين، حيث يتمي معظم الكشميريين إلى واحدة من الطرائق الصوفية، الشيشتية، والسهروردية، والكبراوية، و الريشية، ولقادرية، والنقشبندية.
بعد صلاة الفجر، تنبعث المدائح الصوفية من كل مكان تقريباً من العاصمة التاريخية لكشمير، سرينغار، الصبح فيها ابتهاليّ بامتياز، في حين يسود الصمت والورع معظم المقامات المزارة طوال النهار في المدينة، علماً أنّ هذه الزيارات تشكّل فسحة أساسية للسكّان للترويح عن النفس أيضاً، في مدينة ينتشر فيها الجيش الهندي في كل مكان، ولا يغيب عنها التوتر السياسي فترة بسيطة حتى يعود أقوى مما كان، وقد أغلقت دار السينما التي كانت في المدينة في الثمانينيات، بسبب الصدامات آنذاك، ولم يعد فتحها من حينه.
إذا ما ابتعدت بعض الشيء عن أسواق المدينة في منطقة "دال شوق"، تظهر لك سرينغار مدينة هادئة، تعوم في سكينتها على جوانب بحيرة "دال" التي تتجمع فيها مياه نهر "جهلم"، لا يقطع هذا الصمت إلا أصوات سائقي المراكب الصغيرة "الشيكارا" من أجل إقناعك برحلة ساعة أو ساعتين في البحيرة. أحياناً يكون مناط الرحلة زيارة عزبة "ماهراج كشمير" أيام البريطانيين في وسط البحيرة، وأحياناً سوق الخضار العائم باكراً كل صباح، لكن الوجهة الأساسية للمراكب هي بإتجاه مقام "حضرة بال".
شعرة النبي وقدسية المدينة
"حضرة بال" مقام يتدفق عليه مسلمون من خارج الهند بأعداد مرتفعة عندما تكون الأحوال السياسية مؤاتية في كشمير، السبب أنّه يشمل آثار لنبي الإسلام، إذ يقال أنّ به شعرة من لحيته.
كيف وصلت شعرة لحية النبي إلى هنا؟ الحكايات لا حصر لها، المهم أنّ هذا الأثر النبوي أعطى ليس فقط لمقام "حضرة بال"، وإنّما للمدينة ككل، قدسيتها، هذه المدينة التي يعني اسمها بالسنسكريتية "المدينة المباركة"، احتاجت الى هذا الأثر لتبني عليه قدسيتها هذه، من بعد تبنيها الإسلام، والإسلام لم يتحوّل إلى ديانة غالبة في كشمير إلا في مجرى القرن الرابع عشر، قبل ذلك كانت كشمير سجالاً بين البوذية والهندوسية، وحتى عندما بدأ بعض ملوكها يعتقنون الإسلام، فإنّ الكلمة بقيت فيه للبراهمة، على رأس المجتمع الهندوسي، وللرهبان البوذيين في مرتفعات لاداخ، إلى أن تمكنت الطرائق الصوفية من تحقيق عملية نشر الإسلام بين السنسكريتيين.
حضرة شاه همذان.
في هذا الصدد تبرز شخصية "مير علي ابن شهاب الهمذاني"، شيخ السالكين، أحد أعلام التصوف الفارسي، الذي قدم الى وادي كشمير ولعب دوراً أساسياً في أسلمته، تشكّل "حضرة شاهي همذان" في المدينة القديمة من سرينغار واحداً من أهم المعالم الدينية للمدينة، كما أنّ المقام تحفة معمارية من الخشب.
يعرف الكشميريون "ابن شهاب الهمذاني المسعودي" الذي قدم إلى واديهم على أنّه "شاه همذان"، ويتوارثون حكايات كثيرة حوله. كثير منها لا يصمد أمام التحقيق التاريخي. وكثير منها يوظّف المخيلة العجيبة بشكل واضح.حضرة مير علي شاه همذان.
"شاه همذان" هو من أولياء الصوفية الذين أعطوا أهمية كبرى للسفر، والذى أمضى إحدى وعشرين سنة يجوب البلاد، وبالإضافة إلى الحج إلى المدن المقدّسة، فإن أسفاره الأخرى لم تكن كأسلافه في الطريقة، بقصد طلب علم الحديث النبوي، كما كان يفعل "نجم الدين الكبري" الذي ينتمي الهمذاني إلى طريقته (الكبراوية)، وليس فقط بقصد نشر الإسلام، وإنّما قبل كل شيء للتنقل بين الأولياء الصوفيين الآخرين والتعرف عليهم وعلى تجاربهم، وأيضاً لفهم تعددية البشر وتنوعهم بين الأمصار.
وفي مرحلة كانت قد بدأت فيها الحملة على تركة "ابن عربي" ومذهب "وحدة الوجود" بين الصوفيين، اتصف الهمذاني بدفاعه عن إبن عربي، كما اتّصف بانفتاح على أتباع الديانات الأخرى، ومن هؤلاء من سيتأثر لاحقاً بكتابات الهمذاني، مثل الصوفية الهندوسية الشيفاوية لالي ايشوري (ت 1392).
يجنح المؤرخون المعاصرون للتشكيك برواية زيارة الهمذاني ثلاث مرات لكشمير، ويكتفون بزيارة واحدة، بعضهم يشكّك أيضاً برواية تصادم الهمذاني مع تيمورلنك، ورفضه العمل في خدمته، وبحثه عن ملك صالح في تلك الأيام، وجده في شخص السلطان شهاب الدين في كشمير.
أياً يكن من شيء، تخدم هذه الرواية فكرة أن الصوفي يبحث عن الملك الصالح، ويبتعد عن حكم الطاغوت، كما أنّ العدل الذي تظهره هذه الرواية هو في إنصاف هذا السلطان الكشميري بين رعاياه من الديانات الثلاث، الأكثرية الهندوسية آنذاك، والأقليتين البوذية والمسلمة.
زار "شاه همذان" السلطان إذاً، وقدّم له النصح، وفي روايات أخرى عاد فزار من خلفه، الأهم هنا، أنّ هذا التراث الشعبي الكشميري عن "شاه همذان" يربط تحوّل أكثرية سكان الوادي نحو الإسلام بكراماته هو، وبشخصيته هو، وبأسلوبه غير التصادمي مع الديانات الأخرى.
الريشيون والنقشبنديون
ولقرون مديدة، نجح التصوّف في إعادة تشكيل المشهد العام للحضارة الإسلامية، لم تعد هي الحال منذ فترة غير قصيرة، بفعل عوامل متباينة، منها الإحيائية السلفية في القرون الثلاثة الماضية، وحملاتها ضدّ المعتقدات الشعبية، وحبّ الناس للأولياء الصالحين، وزيارتهم لأضرحتهم، بما في ذلك الإحيائية السلفية التي قامت داخل الإسلام الصوفيّ نفسه، لإعادة تشذيبه و"تسنينه"، وإبعاده قدر الإمكان عن التصوّف الفلسفيّ، وعن عالم "الخيال الخلاّق" الذي أسّس له محيي الدين ابن عربي.
فعلى الرغم من حرص السلطان العثماني "سليم الأوّل" على تكريم ابن عربي بعد فتحه دمشق، فإنّ "التنّصل" من ابن عربي، من بعد اختزال فلسفته وأعماله في مقولة "وحدة الوجود"، ومواجهتها بمقولة "وحدة الشهود"، شكّلت الشغل الشاغل لـ"المحافظين" من بين المتصوفة.
وإذا كانت كتابات "شاه همذان" دلّت على تأثره باِبن عربي، وبمذهب أنّ ليس في الوجود غير الله، وإذا كانت الطريقة الكبراوية التي ينتمي إليها شاه همذان كثيراً ما اعتبرت في منزلة وسطيه بين التسنّن والتشيّع، وصولاً إلى من اعتبر شاه همذان نفسه شيعياً إثني عشرياً، فإنّ التصوّف في كشمير سيتخذ عموماً مسارين مختلفين.
أحد الاتجاهين يدلّ على التواصل مع التراث الروحي ما قبل الإسلامي، تراث اليوغا الشيفاوية، من هنا نشأت طريقة خاصة بكشمير، هي الطريقة "الريشية"، و"الريشي" هو الصوفي الزاهد بالهندوسية، وثمة من وجد تحرّجاً في أن تكون تسميته من أصل هندوسي، فساق تفسيراً آخر لأصل "ريشي"، من "ريش"، أي أنّه كريشة مفصولة عن طائرها، في مهب الريح. وعرف الريشيون تقليدياً بامتناعهم عن أكل اللحم.
أما الاتجاه الثاني، فعلى العكس من ذلك، يدخل في إطار تعميق القطيعة مع التراث الما قبل إسلامي، ومع الهندوسية والبوذية، ومع ابن عربي ومذهب وحدة الوجود، يحرص هذا الاتجاه على تشذيب التصوف وإخضاعه لتسنّن سلفي، وهذا ما نجده في كشمير النقشبندية والقادرية.
بشكل عام، يمكن القول إنّ التوتر السياسي، والديني، بين المسلمين والهندوس، سيلعب دوراً في غلبة هذا النوع من التصوّف على النوع الآخر الذي عبّرت عنه الطريقتان الكبراوية والريشية، تصوّف أكثر تصالحاً مع التعددية الدينية للبشر، وأكثر "تواصلية" مع التاريخ الروحي للهيملايا الغربية.
بين هذين الاتجاهين تتقارب عشرات الصروح الصوفية، في حارات سرينغار، وعلى ضفاف بحيرتها ونهرها، ومنها مقام "روز بال" الذي يعتقد الأحمديون وقسم من أبناء المدينة أنه ضريح السيد المسيح بعد هجرته إلى كشمير.
قد لا يتفق الجميع في المدينة على توصيف مدينتهم بـ"المقدسة"، من باب التدقيق الفقهي بهذا اللفظ، لكنهم يتعاملون معها عموماً على أنّها كذلك، أو تراهم يستذكرون قولة إمبراطور مغول الهند جهانغير، عن كشمير بوصفها الفردوس الأرض.