مينا صلاح يكتب: واحدة "ستيلا" واتنين أم كلثوم
لم أدعِ الفضيلة يومًا، ولن أنكر على الإطلاق ترددي على بارات وسط البلد، التي جذبني إليها شغفي، لهدوء شوارع المدينة الصاخبة نهارًا، وخلوها، ونسائمها ليلًا، من ميدان محمد فريد، لميدان طلعت حرب، ومن ثم إلى شارع شريف، ومحيط البنك المركزي..
أخذت ابحث عن بارٍ، فقادني فضولي القاتل وقتها إلى مكان لا تزيد مساحته عن 30 مترًا، حيث كان أول أماكن المحرمات والعياذ بالله تطؤها قدمي.
دخلت المكان للوهلة الأولى، ويهئ إلى أنه مملوء بالبلطجية، ومن هم ذوو العضلات المفتولة الذين يجبرون الناس على دفع أموال طائلة مثلما جسدت السينما في أفلامها، والتي ظننت يومًا أنها تعكس واقعًا، ورددت من على أبواب "الخمارة" جملة "السلام عليكم" بتلقائية شديدة، كما أرددها عشرات المرات منذ استيقاظي، حتى منامي، من المواصلات للعمل للتاكسي إلخ.. لينتاب الجميع نوبة ضحك شديدة مصحوبة بعبارات ساخرة، تعجبت منها حتى ادركت فضحكت أيضًا.
وسرحت طوافًا في المكان، اتفقد جدرانه، ومعلقاته، ولاحظت صوتًا خافتًا لأم كلثوم، وهي تقول "الليل وسماه ونجومه وقمره وسهره وأنت وأنا يا حبيبي أنا"، فغازلني شعور الأبيض والأسود، حتى ظننت أن رشدي أباظة سيطرق الباب، بعد لحظات وقبل أن أفحص وجوه الثكالى الجالسين المبتهجين حولي، فاجئني صوتٌ هادئٌ برقي شديد تعجبت له: "أؤمر يا أستاذ"، وأمرت، ومضى بعدها، حتى وجدت أغلب الجالسين حولي، من أصحاب سن المعاشات، وقلة قليلة من الشباب.
أولى محطاتي في ذلك المكان العتيق الذي كان مملوكًا لكوكا الراقصة، منذ 60 عامًا، كنت جليسًا فيه لصحفيون، كبلتهم الظروف عن الكتابة، ومثقفون حل محلهم جاهلون، وضباط أيضًا على المعاش لم ينالوا من 67 ولا من 73، غير كون مبارك صاحب الضربة الجوية، وموظفون كبارٌ، خرجوا بعد خدمتهم، من الدنيا حدث ولا حرج، لا مال ولا جاه، جميعهم فرقتهم الدنيا وجمعهم صوت أم كلثوم، حول طاولات الهموم الضاحكة، لكل منهم قصة يحبس دموعه خلفها بزجاجة بيرة، ودخانًا من تبغه المحلي كان أو الأجنبي، ضحكة غليلة، تكاد تنتهي بنهر دموع، نعم فهؤلاء هم الذين ليس لهم أحد فيارب أذكرهم.
عم شريف، ذو البشرة السمراء، الذي يشبه إلى حد كبير علي الكسار، لا ينفك عن الضحك، ولكنه يخرج للحظات عن مزاحه لتجحظ عيناه مرددًا كلمات من الحقيقة، في ماضيه ولكن سرعان ما ترد عليه الست قائلة: "فات المعاد.. فااااات"، ليدمع قليلًا ويعود مرة أخرى إلى جوار عم حسن الضابط السابق، الذي يخفي جبالًا من الأسرار، يرحب بالجميع، وكأنه يودع الحزن، أو يودع الدنيا، فينتبه ملتفتًا وكأن الست تناديه قائلة: "تايهين ماحناش حاسين العمر ثواني ولا سنين يا حبيبي"، فيهمهم برأسه ويعاود الضحك من جديد.
ثاني محطاتي في ذلك المكان، كانت مع بعض التجار، والذين خسروا أموالًا طائلة، ورأوا في مجتمع وسط المدينة، بشاوية وبهاوية غريبة، فأرادوا أن يجالسوا القدامى من أهلها لا المسخ منهم، حتى يتباهون رُغم إهانتهم مرارًا وتكرارًا من أعوان زكي باشا وجورج أقلاديوس.
عم سيد البالغ من العمر 66 عامًا، كان على شراكة مع إحدى الشخصيات الكبرى، في صفقة تجارية، والذي خسرها، ولكن وفقًا للأعراف، السند والحمى، لا يشارك إلا في المكسب.
وذات مرة كنت عازمًا النية على عدم تكرر التجربة، ولكن إذ بلعنة تسري في هواء وسط المدينة، ففور أن نزلت من سيارة الأجرة، قوة دفع لعينة أشد عزمًا من أمناء شرطة مباحث قصر النيل، وحتى عابدين، تقودني إلى هناك، ويقبع بذهني صوت أم كلثوم وهي تردد: "لا عمر كاس الفراق المر يسقينا"، حتى اقتربت من المكان لأجده مغلقًا، قلت كما يقول المؤمنون: "علامة من عندالله"، ولكني يأست من رؤية أصدقائي مرة أخرى، وأكملت يومي مع الست، حتى ميدان رمسيس، مرورًا بشارع عماد الدين الذي لا أهوى أجوائه التي تذكرني بفيلم خمسة باب ونعيمة العمشة، وكررت زيارتي عدة مرات حتى قررت أن أبحث عن الصحبة فى الأماكن المشابهة، يا لوفائي!
وذهبت إلى شارع شريف، حتى وجدتها، مختبئة بين المسوخ، عرفتها من أبوابها، دخلت مندفعًا أحدق في الجالسين، بحثًا عن الصحبة الجميلة، ولم أجدهم، جلست وأمرت، وكانت هنا ثالث محطاتي، مكانا يستع لمئة متر تقريبًا، يحوي بارًا متوسطًا، يعتليه سائلو العلا، الذين دمدمت الدنيا أمالهم، رخصة سياحية بنجمتين معلقة أعلى رأس الخواجة، ولوحات فنية تاريخية، وصوت أم كلثوم رحمة الله عليها، يجمل المكان ذو الأضواء الحمراء الخافتة، والمقاعد الخشبية، وصوت الزجاجات وابواب الثلاجات.
ورغم من عراقة ذلك المكان، لكنه لا يضم نخبة من الذين فرضت نفسي على مجتمعهم كصديقٍ لهم، منذ أن عرفتهم، فأنا لا زلت أبحث عن المجهول، وبرفقتي أم كلثوم الراعية الرسمية للأحباء، فمتى تحنو علينا لتجمعنا مرة أخرى؟ على الرغم من المسليات الوفيرة التي يقدمها دون حساب.
وأقلعت بقطاري حتى محطته الرابعة، بار الصفوة، بوسط المدينة، وهناك رأيت فنانين، رسامين، كتاب وصحفيين، ولكن من أهل الجاه والمال، على الرغم من بساطة المكان، إلا أنه متسع لاستعراض الذكريات، والتباهي بالماضي، والتهكم، وأم كلثوم تظلل عليهم بصوتها: "أهل الحب صحيح مساكين صحيح مساكين".
لن أذكر منهم أحدًا باسمه، ولكن الفئة العمرية لهم، كانت تتراوح ما بين 45 لـ 95 عامًا، أساتذة جامعات، ورؤساء أحزاب سابقين، ومسرحيين، وكتاب وغيرهم، اعتادوا أن يرتادوا على ذلك المكان، ظنًا منهم بأن الرئيس جمال عبد الناصر، لا زال يحكم، وأنهم أبناء طبقة الصفوة، التي لا يصح ان تختلط بعامة الشعب، وكان لهم من المحاسيب العشرات، ومن الوصيفات الجميلات المدللات.
أزمتي مع ذلك المكان، لم تكن الروتينية القاتلة، وإنما المسوخ والوجوه التي أصابتها الشروخ، حتى كرهتهم شكلًا وموضوعًا أشخاصًا ومكانًا، وتركتهم ومضيت، حتى الست لو كانت على قيد الحياة حتى وقتنا هذا، لكانت لعنت اليوم، التي اعتلت فيه منبر الإذاعة المصرية.
خامس محطاتي بوسط المدينة، الجميلة، كانت بالقرب من دار القضاء العالي، عطفة نقابة الصحفيين، وأنت متجهًا من شامبليون، بعد 10 أمتار من قهوة عم غزال، استقبلتني الست استقبالًا حافلًا وكأنها تعاتبني قائلة: "ودارت الأيام، ومرت الأيام.. ما بين بعاد وخصام وقابلته نسيت أني خاصمته"، فابتسمت، وقبعت هناك قرابة الساعتين والنصف، هذا المكان الذي لا صوت يعلو فيه على صوت أم كلثوم، حتى لمح فيه صديقي شخصًا وكأنه جورج كلوني، قائلاً انظر إليه إنه من رواد بار الصفوة، ولكن لما السلك بيضربهم بيجوا يقعدوا هنا، سمعت كلماته وتعجبت كيف له أن يجلس في مكان لا تزيد مساحته على الثلاثة أمتار بهذا الوقار!
لو كنت مسؤولًا لفرضت ضريبة مزاجية، على البارات، وبالأخص، وسط المدينة، تحت بند ضريبة الست، لتعود إلى أسرتها، فالسبب الحقيقي في المكسب وفي الحالة المزاجية، وفي المسكنات المؤقتة التي يتعطاها الثكالي، ليست للخمور، ولا البيرة وحدها، ولكن الكلثوميات شريكًا أساسيًا بها، فهي التي اجتمع على صوتها السياسي والكاتب، والاستاذ، والطبيب والعامل، والبسيط والمثقف، هي التي تحدثت بلغة فاضت كل اللغات تعبيرات بلاغية، هي التي صاحت بكلمات بيرم التونسي، والحان محمد عبدالوهاب، وموسيقى القصبجي العربية الأصيلة، هي التي ضمت الجروح.
"الحب خير مش خطية الله محبة الخير محبة النور محبة"، وأنتِ أيضًا يا سومة من يدركك ليس بحاجة إلى الذهاب للبارات، ولكن هي التي بحاجة إليكِ.
لنا لقاء في موضوع جديد عن قريب بعنوان:" عذرًا عم محمد الترزي.. أنت اللي سمعت أم كلثوم وأنا اللي فصلتها".