تدبر قوله تعالى في هذه الآية.. "وتحبون المال حبًا جمّا"
من ذا الذي لا يحب المال حبًا جمًّا؟ لا أظن أحدكم سيقول: أنا ذا.. لماذا؟
لأنه عكس الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لأن المال في الأصل، أمر محبوب إلى الإنسان، يسعى إليه بكل الطرق، بغض النظر هاهنا عن الحلال والحرام، فالسعي إلى امتلاكه وتنميته، فطرة بشرية، ولأن المسألة فطرية، ترى التشريعات الإلهية تنظم كيفية الحصول عليه ووجوه إنفاقه وصرفه.
لتعرف مدى حبك للمال، حاول أن تتذكر ذات مرة وقفت أمام صندوق تبرعات، ومنادٍ بجانبه يدعو للتبرع، فأخرجت محفظتك وقد رأيت فئات ورقية متنوعة، من الريال إلى الخمسة والعشرة، وصولًا إلى فئة الخمسمائة ريال الزرقاء العزيزة.. ثم رأيت أصابعك محتارة بين الخمسة والعشرة، فيما الزرقاء العزيزة بعيدة عن تلك الأصابع الحائرة! فأخرجت بعد تفكير سريع عشرة ريالات، وخرجت سعيدًا بذلك، نسأل الله لك القبول.
ما بين الانتباه إلى المنادي ومرورًا بفتح المحفظة واختيار الفئة النقدية وإخراجها وإكمال مشوارك، حدثت عمليات تفكير واتخاذ قرار في ثوان معدودة.. ولو تتأمل وتتفكر في تلك الثواني، لوجدت أن سبب توقفك للتبرع ومن ثم اختيارك لعشرة ريالات وليس خمسمائة ريال مثلًا، هو ظهور عشرات الأشياء في حياتك التي بحاجة للصرف والإنفاق، لأن الشيطان في تلكم اللحظات يكون تركيزه معك في قمته، يحاول أن يثنيك عن التبرع بالإيحاء أن هذا هو الرياء ذاته، والأفضل أن تذهب في وقت آخر حيث لا أحد بجانب صناديق التبرعات.. وبالطبع لن يأتي هذا الوقت الآخر قريبًا، بل ربما لن يتكرر مشهد المناداة للتبرع أمامك.. ولكن مع ذلك تبرعت.
انتصارك على إيحاء الشيطان في المرحلة الأولى، سيقودك إلى الثانية والمتمثلة في اختيار قيمة التبرع، وبالطبع لن يكون الشيطان قد يئس منك بعد، فيأتيك بكل مصروفات واحتياجات عائلتك ويضخمها أمامك لتمسك يدك من التبرع بسخاء أو تصل إلى الزرقاء، فيوحي إليك بأنه "رُب درهم سبق مائة ألف درهم" أو أنك لست الوحيد الذي ستتبرع لهذا الأمر، وهناك غيرك الكثير الكثير، فإن تبرعت بريال واحد، فهو مقبول وطيب، وهناك من سيزيد المبلغ، وهكذا يحاول أن يصل بقيمة تبرعك إلى أقل ما يمكن.. وبالطبع هذا التردد الذي يحصل سواء في التبرع أم لا، أو اختيار القيمة، إنما سببه الخفي المدفون في أعماق نفسك، هو حبك الجم للمال، ولا يلومك أحد على ذاك الحب باعتبار فطرية الأمر، لكن اللوم بالطبع، سيصيبك إن تعمقت في حبه ووصلت للبخل والتقتير أو الإسراف والتبذير.
لننتبه إذن إلى كيفية كسب المال ووجوه صرفه، فأغلبنا - كما تقول العامة - مذهبه واسع جدًا في مسألة الكسب، لا يتوقف طويلًا عند الحلال والحرام، علمًا بأن سؤالين من الأسئلة الخمسة يوم القيامة سيكونان عن المال، من أين اكتسبه وفيم أنفقه.
الأمر إليك، فانظر ماذا ترى؟