عادل حمودة يكتب: دينا حبيب وشهرتها دينا باول.. بنت من شبرا فى البيت الأبيض!
■ فزعت عندما أرسل إليها إبراهيم نافع ساعة مرصعة بالماس واعتبرتها رشوة وذهلت عندما عرفت أن عائلة مبارك تتلقى هدايا ثمينة دون حساب!
■ تعلمنا أن الخبرة السياسية تبدأ بحمل حقيبة أعضاء الكونجرس وأن الحكومة الجيدة تنفذ نصائح المستشارين وأن موهبة المسئولين يحددها الطب النفسى
■ تخلصت من العقلية الشرقية المعدنية التى لا تكبر ولا تتطور وتعيش فى غرفة باردة الجدران وترفض التفكير الحر!
كانت دينا باول تسترخى فى غرفتها بفندق سميراميس تتأمل سحر النيل فى لحظات الغروب عندما وجدت من يطرق بابها ويقدم إليها علبة من القطيفة الزقاء فتحتها بفضول لا يخلو من الرعب.
كان فى العلبة ساعة ثمينة مرصعة بقطع من الماس الحر أرسلها إليها إبراهيم نافع اعترافا بفضلها فى تحديد موعد لحوار صحفى مع جورج بوش نشرته صحيفة «الأهرام» وقت أن كان رئيسا لتحريرها ووقت أن كانت مساعدة الرئيس الأمريكى فى اختيار الموظفين والسفراء.
فزعت دينا باول من بريق الماس وعجزت عن لمس الساعة بعد أن أحست أن عقاربها السامة خرجت من غلافها وتهددها بالموت لدغا.. فألقت بها على الفراش.. وسارعت بالاتصال بالسفير الأمريكى فى القاهرة ديفيد وولش تستنجد به لينقذها من المصيبة التى ألقيت فى حجرها.
إن القانون فى الولايات المتحدة يحظر على الموظف العام تلقى هدية بأكثر من ثلاثين دولاراً والساعة التى بين يديها يزيد ثمنها على ثلاثة آلاف دولار.. ولو قبلت بها فإنها تحاكم بتهمتى الرشوة واستغلال النفوذ وتعزل من منصبها على الفور.. ولو أخفت الساعة ولم تبلغ عنها تكون قد خانت يمين الأمانة الذى أقسمته لتجد نفسها فى السجن.
لم تكن دينا باول تعرف أن المسئولين فى «الأهرام» ينفقون ثمانين مليون دولار سنويا على هدايا مميزة يقدمونها إلى أهم 237 شخصية فوقها الرئيس وزوجته وولديه بجانب كبار رجال الدولة وأنهم حوكموا جنائيا بعد ثورة يناير بسببها وأجبروا على دفع ثمنها.
وكانت تلك الهدايا سببا فى بقاء إبراهيم نافع على رأس هذه المؤسسة الصحفية العريقة أكثر من ثلاثين سنة وهو ما دفع مسئولى المؤسسات الصحفية الحكومية الأخرى لتقليده حتى يظلوا فى أماكنهم غارقين فى الترف.. مستمتعين بقوة المنصب.
كانت النصيحة التى تلقتها دينا باول من سفير بلادها هى إخطار البيت الأبيض بما حدث فورا والتعهد بتسليم الساعة إلى مخازن الهدايا فيه وليس ردها حسب العرف السائد فى واشنطن.
عندما سمعت تلك القصة من دينا باول فى حضور والدها أنسى حبيب وعدد من أصدقائه منهم الدكتور زاهى حواس والخبير السياحى عمر بدر عرفت لم يتحول شخص منبوذ من السلطة فى مصر إلى شخص مقرب منها.. فالهدايا التى تقدم للمسئولين تفتح الأبواب الموصدة والطرق المغلقة.. وتحول الفاسد إلى رجل أعمال.. وصاحب السوابق إلى صاحب نفوذ.. خاصة إذا كانت الهدايا منقولات ثمينة يصعب إثبات جريمة الرشوة على متلقيها.. سيارة.. ساعة.. مجوهرات.. مثلا.
ليس فى مصر قانون صارم يجرم الحصول على الهدايا المغرية التى تدخل بلا جدال تحت باب الرشوة.. خاصة أن من يقدمها يكسر عين المسئول الذى يقبلها ويجبره على تعويضه بمميزات لا يستحقها وتزيد على قيمة الهدايا عشرات المرات.
لكن.. هذا ليس الدرس الوحيد الذى تقدمه لنا دينا حبيب وشهرتها دينا باول.
الدرس الأهم أن الموهوب والمجتهد فى عمله سرعان ما يجد نفسه فى المنصب الرفيع الذى يستحقه دون واسطة تزكية أو قرابة تدعمه.. وهذا سر تفرد الولايات المتحدة.. أو سر الحلم الأمريكى.. الإيمان بأهل الخبرة مهما ثقل ظلهم ورفض أهل الثقة مهما طال سجودهم.. والأفضل بالقطع الجمع بين الخبرة والثقة وهو أمر ليس مستحيلا.
ولدت دينا حبيب فى شبرا عام 1973 وما أن أنهى والدها -الضاربة جذوره فى صعيد مصر- خدمته الإلزامية فى القوات المسلحة حتى وجد نفسه عاجزا عن تلبية مطالب أسرته الصغيرة فبحث عن عقد عمل فى الخليج.. لكنه.. لم يحظ به.. وإنما حظى بفرصة للهجرة إلى الولايات المتحدة منحتها له عائلة زوجته التى استقرت فى ولاية تكساس ولم يكن عُمر دينا ليزيد على أربعة أعوام.
مثل غالبية المهاجرين لم تكن حياة أنسى حبيب سهلة فى وطنه الجديد لكنه لم يشعر بالخجل وهو يبدأ من الصفر بقيادة حافلة نقل قبل أن يمتلك محلا للبقالة.. وأنجب ثلاث بنات تميزن بالجمال وإن طلق أمهن فيما بعد ليتزوج من امرأة أخرى أنجب منها صبيا.. وهو ما أزعج البابا شنودة شخصيا فتدخل مباشرة لمنع الطلاق.. ولكنه فشل.
إن المجتمع هناك لا يحتقر المهن المتواضعة.. ولا يعاير بها أصحابها.. ويفتح لهم طرق الصعود إلى الثروة والسلطة ماداموا قادرين على السير فيها.. وهذا سر آخر من أسرار تميزه.
تفوقت دينا فى دراستها وما أن تخرجت فى جامعة تكساس حتى تدربت فى مكتب السيناتور الجمهورى كاى بيلى هاتشيستون.
ومكاتب أعضاء الكونجرس هى المدارس العملية التى يتخرج فيها السياسيون الأمريكيون.. وربما بدأ الواحد منهم مشواره للسلطة العليا بحمل حقيبة سيناتور ولايته وترتيب مواعيده وشراء البقالة لعائلته قبل أن يتطور أكثر ويكتب خطاباته ويجهز مواد أحاديثه الصحفية والتليفزيونية.. وتتيح له هذه الخبرات التعرف على كواليس الحكم وأسراره وشخصياته وطرق الوصول إليه.. وهو طريق مشيه بيل كلينتون انتهى به إلى البيت الأبيض.. ليكون واحدا من أفضل رؤساء الولايات المتحدة.
ويفتقد أعضاء مجلس النواب فى مصر مثل هذا التدريب العملى.. وربما دخل أغلبهم مبنى البرلمان أول مرة ليحصل على بطاقة عضويته دون أن يعرف حقوقه وواجباته واللائحة التى تنظم عمله فيتخبط يمينا ويسارا وعندما يحصل على خبرة مناسبة لا يعاد انتخابه غالبا.
ولو كانت مهن مثل الصحافة والهندسة والمحاماة تشترط تدريبا عليها قبل الاشتغال بها فإن مناصب شديدة الخطورة «مثل منصب الوزير أو منصب رئيس الحكومة» لا تشترط التدريب عليها وليس لها مواصفات محددة تضمن صلاحيتهم لها.
ليس لدينا أحزاب يتدرب فيها الوزراء.. وليس لدينا أكاديمية عليا يتخرج فيها السياسيون.. ولا نعرف لم جاء فلان وزيرا؟.. ولم أقيل من منصبه؟.. وكأننا أمام ورقة يانصيب نشتريها غصبًا عنا ولا نضمن الفوز بجائزتها.. ولو كنا نتحمل نتائج الفشل فإن لا أحداً يحاسب على سوء الاختيار أو سوء الأداء.
حصلت دينا حبيب على لقب باول بعد زواجها وهى تفخر بوصف «ابنة البقال» الذى تنسبه الميديا الأمريكية إليها.. ولا تشعر بالإهانة من سماعه.. بينما أنكر وزير إسكان أسبق أن أباه كان نجارا.. وادعى أنه «باشا».. وعندما مات الأب لم يذكر أشقاؤه فى النعى حتى لا ينسبوا إليه.
وسبق أن حصلت مارجريت تاتشر على اللقب نفسه.. ووصفت بـ«ابنة البقال التى أصبحت رئيسة وزراء بريطانيا».. فاللقب يجسد قيمة العصامية وصعود السلم درجة درجة حتى بلوغ القمة.. فالذين يولدون على فراش من ذهب غالبا ما يدفنون فى مقابر الصدقة.. حسب المثل الإنجليزى.
وكانت تاتشر ترى أن عليها مواصلة التدريب على السلطة التى وصلت إليها بأن تذهب كل ثلاثة شهور هى ووزراء حكوماتها إلى معسكر معزول فى غابة لمدة يومين بعيدة عن العيون لتستمع بتواضع شديد إلى ملاحظات خبراء تثق فى صدقهم عن سلبيات إدارتها لتلافيها.
لم تصب هى وحكومتها بفيروس الغرور الذى يتمكن من المسئولين فى بلادنا بمجرد حلف اليمين فيمنحهم زهوا لا مبرر له ولا دليل عليه ويشعرهم بأنهم فوق الجميع فهما وعلما يقتلهم بالسكتة السياسية.
أما دينا باول فقد لجأت إلى خبراء فى توصيف شخصيتها لتحديد ما يناسبها من عمل.. وانتهت جلسات الاختبار إلى أنها موهوبة فى التوفيق بين المتناقضات الصعبة.. فنجحت عندما عملت مساعدة لوزيرة الخارجية كواندليزا رايس فى عقد شراكة بين الشركات الخاصة والمؤسسات الحكومية لمواجهة الكوارث الاجتماعية وتنمية المناطق الفقيرة وتأهيل مدمنى المخدرات على أعمال تناسبهم.
وما أن تركت البيت الأبيض حتى فتح لها البنك الاستثمارى الشهير جولدمان ساكس أبوابه لتشرف على برامج الأعمال الخيرية التى تقدر قيمتها بأربعة مليارات دولار ونجحت فى تمكين 10 آلاف امرأة حول العالم من تكوين شركات صغيرة نقلتهن من الضياع إلى النجاح ومن العبودية إلى المساواة.
وتكشف قناة «الحرة» أنها ساعدت امرأة نيجيرية فى مدينة ليجوس افتتحت مطعما بثمانية دولارات لكنها تمكنت من توسيعه ليعمل فيه 40 شخصا فى بلد يتفجر فقرا وجوعا.
وحسب قناة «فوكس» فإن دينا باول تمتلك جينات شرقية معتدلة تكره التطرف أو التشدد وتفضل السلم عن الصراع وتؤمن بأن خروج أطراف المشكلة سعداء بحلها أمر ليس صعبا وساعدها على ذلك تخلصها من العقلية الشرقية التى لا تؤمن إلا بما تعرف ولا تستوعب إلا ما تصدق.
والحقيقة أن القناة التليفزيونية الأمريكية الشهيرة وضعت يدها دون أن تقصد على أسوأ عيوبنا.. عقليتنا الضيقة.. المحدودة.. ذات البعد الواحد التى لا تكبر ولا تتطور ولا تنجب ولا تتزوج وتعيش عانسا فى غرفة باردة رافضة الانفتاح على العالم حتى لا تصاب بالزكام وتخشى التفاعل معه حتى لا تصاب بجرثومة الفكر الحر.. والنتيجة الطبيعية لذلك أن كلاً منهم أصبح معجبا بذاته لاصقا على صدره الأوسمة والنياشين ملقيا فى وجه الآخرين بأوصاف الخيانة والعمالة لنجد أنفسنا على شاشات الفضائيات فى حرب تدميرية ذاتية أشد ضراوة من الحرب الإرهابية.
لا يعيش وطن بمطرب واحد.. ولا بمفكر واحد.. ولا بمفتى واحد.. فلو شاء الله لخلقنا جميعا متشابهين مثل حبات الأرز.. لكنه.. سبحانه وتعالى صنعنا مختلفين لنتكامل.. ومتنوعين لنتجاذب.. فالنوع الواحد لا يتزاوج ولا ينجب ثمارا.
لقد تحررت دينا باول من التعصب لدين وعرق وجنس ولون فوضعت يدها على شفرة القوة فى المجتمع هناك فاختيرت مستشارة للرئيس الأمريكى الجديد لتنقية الشوائب التى علقت بالنفوس المتزمتة خاصة تجاه المرأة.. سر الحياة.. ومركز الكون.. ومصد العقد الجنسية والسياسية.. بما فى ذلك عقد دونالد ترامب شخصيا الذى لا ينظر إليها أبعد من غرفة النوم.
وربما لهذا السبب يمكن أن نصدق سى إن إن عندما تقول: إن دينا باول أهم اختيار لترامب فهى لن تقرب النساء إليه فقط وإنما ستعلمه كيف يحترمهن.
إن دينا باول ليست مجرد مصرية نجحت فى الوصول إلى مراكز السلطة العليا فى الولايات المتحدة وإنما هى مجموعة دروس وخبرات علينا تأملها قبل التعلم منها إذا شئنا التغيير.