عبد الحفيظ سعد يكتب: دمياط .. صناعة مصرية ضربها الدولار وجشع مستوردى الأخشاب الكبار
خطر يهدد ضياع صناعة "الموبيليا" على طريقة "النسيج" و"الجلود"
■ الركود يصيب 32 ألف ورشة موبيليا ويحولها لمقاهٍ ومطاعم «تيك أواى» والحرفيون يلجأون لتعاطى الحشيش
■ كساد البيع وتخزين الأخشاب يهددان أهم مدينة صناعات صغيرة فى مصر
قبل سنوات.. لم تفلح التحذيرات من ضياع صناعتين تميزت بهما مصر، وهما «الجلود» و«النسيج».. ووقف الجميع يتفرج على انهيارهما، رغم أنهما ارتبطا بتاريخ نهضة مصر الحديثة، بعد أن توفرت لهما كل عوامل النجاح من المواد الخام، والبيئة، الأيادى العاملة، وسوق تتهافت على المنتج..
لكن لم يمنع كل ذلك، من ضياع صناعتى «النسيج» و«الجلود». وغطت الملابس الصينية الأسواق المصرية وانهارت الصناعة، وكادت زراعة القطن تندثر.. وبدأت عملية تصدير الجلود الخام من مصر لإيطاليا وتركيا لتباع بأثمان بخسة.. ليعاد استيرادها لمصر مرة أخرى بعد أن تتحول لمنتجات راقية بأرقام خيالية..
السيناريو الكارثى لضياع صناعة «الغزل» و«الجلود»، يدق الأبواب مرة أخرى فى صناعة جديدة تفردت بها مدينة مصرية، وهى صناعة الأثاث المنزلى (الموبيليا)، وهى المهنة التى لا يذكر اسمها إلا واقترن بهذه المدينة، وكأنها اسم واحد «الموبيليا الدمياطى».
واختارت دمياط، طريقها منذ سنوات فى هذه الصناعة وتحولت بها إلى مدينة، تشبه ما نسمع عنه فى المدن الصناعية الصينية، المقامة على فكرة الصناعات الصغيرة كثيفة العمالة، يتكامل كل سكانها على خدمة الصناعة.
وهكذا كانت دمياط، قبل سنوات من الآن وربما قبل أشهر قليلة، فى أروقة لمدينة انتشرت، أصوات «المناشير» وهى تقطع الأخشاب، وعملية حفر لقطع الموبيليا، و«جاكوش»، وهو يضغط المسمار فى الخشب، وتتبعه عمليات أخرى من التنجيد والطلاء، يمتزج كل ذلك بصناعة الموبيليا فى كل شبر بالمدينة، بل فى القرى المجاورة لها، وتحولت إلى المدن القريبة منها من المحافظة.
وكان مشهد دمياط كأنها مصنع كبير داخل المساكن، لا ترتبط بمجمع صناعى مغلق فى المدينة، بل كل شوارعها وحاراتها وأزقتها، مرتبطة بتلك الصناعة.. تشاهد بجوار ورشة الأخشاب، محلاً للتطريز، وآخر لصناعة القطع الصغيرة من الموبيليا، وثالثا للتنجيد، ورابعا لبيع مستلزمات الصناعة... وعلى مقربة منهم معرضا يستقبل زبائن الأثاث، ليبيع ما تصنعه يد الحرفيين.
واحتفظت دمياط بنمطها الخاص وتحولت إلى مدينة منتجة، لدرجة كانت تحسدها عليه باقى المحافظات والمدن المصرية.. فهى المحافظة الوحيدة التى لم تكن تعانى من أزمة بطالة، طبقا للواقع الفعلى، ففرص العمل متوافرة لمن يريد أن يعمل، الورش الصغيرة المنتشرة بين المساكن، وصلت إلى رقم تجاوز 32 ألف ورشة، تركز منها حوالى 12 ألفا فى المدينة وتوزع الباقى فى قرى ومدن المحافظة.
ومنح انتشار صناعة الموبيليا وملحقاتها فرصة للجميع فى المدينة أن يعمل، حتى الموظفين أو طلاب المدارس، لمن لديه متسع من الوقت فى الإجازات، كان بإمكانه أن يستثمره فى العمل فى صناعة يدوية، قريبة أسفل منزله.
لذلك حافظت دمياط على صناعة الموبيليا فى مصر، لدرجة أن إنتاجها غطى ما يزيد على 70% من مستلزمات صناعة الأثاث، سواء فى تغذية المعارض فى مختلف محافظات الجمهورية أو الشراء المباشر لمن يريد أن يوفر فى فارق الأسعار بين المعارض الفاخرة والشراء من المنتج فى الورش التى تكتفى بهامش ربح صغير، طمعا فى استمرار الإقبال على تلك الصناعة.
يضاف لذلك أن دمياط لم تكتف فقط بمد السوق المصرية باحتياجاتها من الإنتاج، فسجلت المحافظة طبقا للأرقام الرسمية تصدير ما يزيد على مليار دولار من الموبيليا فى عام 2011 كتوريدات مباشرة.. وليس ذلك فحسب، فأغرت مدينة الموبيليا زبائن من الدول العربية خاصة الخليجية، أن يحضروا مباشرة إليها ليختاروا التصميمات من الأثاث الذى يرغبونه، سواء فى التصميم أو المتانة أو نوعية الأخشاب، لمن يرغب فى اقتناء قطع أثاث خاص، بنفس الذوق الأوروبى، أو التصميمات العربية، فكل ما تحتاجه من أثاث ستجده فى هذه المدينة.
1- انهيار مدينة صناعية
الصورة السابقة من حالة الانتعاش فى دمياط كانت قبل سنوات قليلة.. لكن الواقع الآن فى دمياط مختلف، بمجرد أن تطأ قدمك المدينة وأنت على مشارفها، سواء عبر الطريق الواصل بينها وبين الشرق، تجاه بورسعيد والإسماعيلية، من خلال الطريق الدولى، تقطعها عبر الطريق الزراعى الملاصق لفرع نهر النيل، تشعر بمجرد القدوم أنك تدخل مدينة عتيقة، معارض الموبيليا الكبيرة منتشرة على جانبى الطريق، وعلى أطراف المدينة العشرات من «مغالق» ومخازن الأخشاب، لكنه دون حراك تكاد تكون أبوابها مغلقة.
الحال فى المدينة وعبر دروبها لم يكن يختلف عن خارجها، حتى فى شارع «عبدالرحمن»، وهو الشارع الرئيسى الذى اقترن اسمه بصناعة الموبيليا، أضواء المعارض مظلمة، الورش تخلو من الصنايعية، حالة ركود، تشبه حالة موات أصابت الشارع، والذى كان منذ فترة قصيرة، كأنه سوق تجارية يسير فيه ويتردد عليه الآلاف من راغبى الشراء، وكانت محاله ممتلئة بالعشرات من الصنايعية أو البائعين.
محمد أبو موسى صاحب ورشة تتوسط الشارع، تنطلق كلامته بالوضع، «الحال واقف، لا فيه بيع ولا شراء، ولا حتى زبائن ترغب فى الفرجة». ويكمل: «من سنتين أو ثلاث، لم أكن أقبل أن أقف معكم وأحدثكم عن الوضع، ليس غرورًا منى أو عدم رغبة فى الحديث، لكننى لم يكن لدى الوقت أن أتحدث لأحد إلا زبونًا أو صاحب معرض يريد أن أصمم له غرفة نوم أو صالونًا، ووقتها لم يكن لدى وقت أتحدث فيه صحافة أو إعلام فلم يكن لدى ما أقوله، لأننى كنت باشتغل وأكسب، ومعى أكثر من عشرة أفراد يعملون معى فى نفس الورشة»..
وفى نظرة سريعة داخل المعرض الملحق بالورشة، التى تتواجد أسفل بناية مكونة من أربعة أدور، لا يوجد بها سوى عاملين فقط.. سألناه «فين الصنايعية؟» إجابته كانت صادمة «قاعدين على القهوة، بلا عمل».. ويتابع: «اضطررت للاستغناء عنهم كان لدى ما يزيد على عشرة عمال وكان بيزيدوا أوقات المواسم فى الصيف، لكن الآن، طلبيات الشغل محدودة، فى السابق كان يطلب منى متوسط عشر غرق فى الشهر، حاليا لو طلب منى غرفتين فى الشهر، يعد إنجازًا».
واقع الحال فى الشارع الصناعى والتجارى «عبدالرحمن»، يدل على حالة الكساد، بدأت المقاهى ومحلات «التك أوى»، تسود بدلا من معارض الموبيليا والورش الصناعية، فالبحث عن مكسب أو أى نشاط ليسدد التزاماته، ويزيد من ذلك أن حالة الكساد التى ضربت المدينة، وحولت حرفيها إلى عاطلين، بدأت تظهر المقاهى، التى لم تكن منتشرة فى دمياط بهذه الكثافة.
المشهد الآخر المثير والجديد فى دمياط، فى شوارع وطرقات المدينة وبالقرب من المقاهى، لفت نظرنا، فوارغ «بـاكتات» ورق لف التبغ، والتى تستخدم عادة فى لف سجائر الحشيش.
سألنا مرافقنا، هل انتشر الحشيش والمخدرات فى دمياط فأجاب برغبة منه عدم الكشف عن اسمه: «للأسف نعم، دمياط مدينة الصناعة ضربها ما أصاب كل المدن المصرية، حالة البطالة أصبحت منتشرة، غالبية الحرفيين والمهنيين تحولوا من الصناعة لمهن أخرى فى تجارة الأراضى والسمسرة العديد من الورش أغلقت وتحولت إلى تقديم الخدمات الاستهلاكية من بيع أجهزة الموبايل إلى الأجهزة الكهربائية، ولم تعد رائحة نشارة الخشب هى التى تسود، بل انتشرت رائحة المخدرات والحشيش».
وفى شارع جانبى متفرع من شارع عبدالرحمن، جلس الحاج أحمد المزيح، أمام ورشة لتقطيع الخشب «المنشار»، مشهده وهو يضع يده ليسند بها رأسه، كانت تدل على ما أصاب المدينة، ما أصابه مثل مئات الورش التى ضربها الكساد، اضطر أن يسرح جميع من معه من صنايعية فى ورشته المتوسطة، واكتفى أن يقوم هو وابنه بتنفيذ أى عمل يسند إليهم، بعد ما وصل به الحال، مكاسب «المنشار» لم تعد تكفى لسداد الإيجار وتكلفة فواتير الكهرباء وعوائد المكان. يقول الحاج أحمد المزيح: «فى فترة من الفترات كنت أضطر أن أحول طلبيات تأتى إلىَّ لأماكن أخرى، كنا بنشتغل ورديتين فى اليوم، حتى نستطيع تنفيذ الشغل، الوضع الآن تغير، أجرة الصنايعية تضاعفت كل الأسعار ارتفعت، لم يكن أمامى حل حتى أحافظ على استمرار فتح الورشة إلا أن أعمل فيها أن وابنى فقط، على أمل أن يتغير الوضع الحالى، والذى لم نعتد عليه فى دمياط».
2- لماذا انهارت دمياط؟
البحث عن إجابة وراء السر فى انهيار صناعة الموبيليا بدمياط، لم يكن تقليديًا، ولا يمكن أن أرجعه فقط لحالة الكساد العام أو حتى نتيجة ارتفاع أسعار الدولار، خاصة أن معظم مكونات هذه الصناعة تعتمد على أخشاب مستوردة.
لكن الموبيليا فى دمياط لا تعتمد على السوق المحلية فقط، وجزء كبير من الإنتاج يذهب إلى التصدير، وربما كان يساهم ارتفاع أسعار الدولار فى تدعيمها كصناعة محلية حتى مع ارتفاع مكونات الأسعار التى تضاعفت ما يزيد على ثلاثة أضعاف طبقا، لما ذكره لنا الصناع، فنجد أن سعر متر الخشب الأبيض ارتفع من 1400 جنيه إلى 4300 جنيه والرومانى «الزان» وصل سعره لـ 11 ألف جنيه بدلا من 4500 جنيه، وتضاعف سعر لوح «الأبلكاش» من 35 جنيهًا إلى 74 جنيهًا، مع ملاحظة أن الزيادات المذكورة فى تصاعد مستمر.
3- سر التجار الكبار فى «تسقيع» الأخشاب
ورغم الارتفاع الكبير فى أسعار الخامات المستوردة، نتيجة تضاعف أسعار الدولار، غير أن محمد العنانى صاحب معرض يرى أن ارتفاع أسعار الدولار جزء من الأزمة وليس كلها، ويرى أن ارتفاع أسعار الخامات كان يمكن التغلب عليه، خاصة فى ظل وجود تصدير وطلب خارجى على الموبيليا الدمياطى، لكن الأزمة كما يؤكد ترجع فى الأساس إلى أن العديد من صناع الأثاث، توقفوا عن الإنتاج نتيجة أن عملية تدوير رأس المال لديهم فى تناقص مستمر.
ويضرب مثلا «كان صاحب الورشة، يقوم بشراء الخشب والمواد الخام التى يحتاجها من التاجر الكبير أو مورد الأخشاب، ويدفع له جزءًا من قيمتها على أن يسدد الباقى بعد أن يبيع منتجه أو يسلمه للمعرض». ويضيف: «الوضع حاليا اختلف جشع التجار الكبار للأخشاب، مع الارتفاع الجنونى لأسعار الدولار، جعلهم يرفعون يوميا أسعار الأخشاب، وأصبح مجزيا بالنسبة للتاجر الكبير أن يُخزن الخشب بدلا من بيعه لأنه يضمن مكسبًا مستمرًا فى كل يوم مع عدم وجود ضابط لسعر السوق، ولم يعد التاجر بحاجة أن يصرف ما لديه من أخشاب، بل الأفضل له من حيث المكسب أن يخزن الخشب لأنه يضمن مكسبًا».
ويتابع: «عملية (تسقيع) للأخشاب للاستفادة من ارتفاع أسعار الدولار على الرغم من أن البضائع مخزنة لديهم منذ فترة طويلة وغالبيتها تم استيرادها بالأسعار القديمة. لكن الوضع الحالى تحول تخزين الأخشاب نفسه إلى تجارة تجلب مكسبًا أكبر على التجار، وهو ما زاد من قلة التصنيع».
4- هل تتدخل الدولة فى توريد الأخشاب؟
محمد سمير عطا، صاحب ورشة للموبيليا، وعضو فى الغرفة التجارية لصناعة الموبيليا، يرى أن دور الدولة غائب تماما فى عملية تدعيم أو على الأقل فى الوقوف بجانب صناع الموبيليا، ويعود بالذاكرة إلى ما كانت تقوم به الدولة فى فترة السبعينيات والستينيات من عملية تدعيم الصناعة، عبر الجمعية التعاونية.. وكانت مهمة هذه الجمعية توفير الأخشاب بأسعار ليس فيها جشع المستوردين الكبار، وكانت تعتمد حصة خشب لكل ورشة موبيليا، بالإضافة إلى المواد المكملة للصناعة.
سألناه، هل الجمعية مازالت موجودة؟ أجاب: «نعم ولكنها تحولت إلى ما يشبه خرابة، لا توجد بها أى أخشاب. وبالفعل عندما قمنا بجولة إلى مكان الجمعية الواقعة فى شارع صلاح الدين، وجدناها مغلقة الأبواب، غير لافتة صغيرة لوزارة الإنتاج الحربى، والتى خلت أيضا باستثناء اللافتة». نعود إلى عضو الغرفة التجارية محمد عطا، والذى يرى أن الأزمة لا تقتصر فقط على عملية الكساد فى البيع والشراء، متفائلاً أن الأزمة الحالية ممكن أن تمر، لكن ما يثير لديه من تخوفات أن تندثر أو تتقلص مهنة صناعة الموبيليا فى المدينة نفسها، خاصة أنها مهنة تجمع ما بين الفن والصناعة فى تصميم الموبيليا، وهو سر تميزت به دمياط.
ويرى «عطا» أن غياب الدولة وترك الصناع فريسة لجشع التجار الكبار، كارثة تهدد هذه الصناعة بأكملها، ويقترح هنا عودة نشاط الجمعية التعاونية لتوفير الأخشاب، مع الحث عن بدائل رخيصة للخشب، خاصة من دول إفريقيا التى تقل فيها أسعار الأخشاب ولكن لا يوجد بها خطوط إنتاج. ومن ضمن المقترحات التى يضعها أن يتدخل الصندوق الاجتماعى فى دعم أصحاب الورش، بتوفير السيولة لهم، فى ظل ارتفاع أسعار المواد الخام، ما جعل الصناع يحجمون عن تصميم الغرف، لأن الغرفة الواحدة سعر تكلفتها فى ظل الأسعار الحالية بسعر 4 فى السابق.
ويحذر عضو الغرفة التجارية، من أن الأزمة الحالية يمكن أن تقضى على حرفة الموبيليا من أساسها، نتيجة تحول العديد من الحرفيين، للبحث عن أعمال أخرى تساعدهم على الحياة، ما يهدد باندثار المهنة، وانهيار أسطورة دمياط فى صناعة الموبيليا، كما ضاعت من قبلها صناعة «النسيج «والجلود»، ما يفتح للمستورد، وهو ما يستفيد منه فقط حيتان الاستيراد.