عادل حمودة يكتب: علّمت أطفالى السياسة فى حكايات قبل النوم!
■ الذئب الذى افترس «ذات القبعة الحمراء» ظهر فى سيناء والجولان والقدس حاملا معه نجمة داود!
■ وسندريلا لم تجد أمامها سوى السحر لتتزوج الأمير بعد أن ألغت الحكومة مجانية التعليم! وفضيحة السلطان العارى المجنون بالثياب بدأت باعتقاله أصحاب الرأى وضرب منابر حرية التعبير!
علمت أطفالى السياسة فى الحكايات التى كنت أقرأها معهم قبل النوم.
كنت أفسر الحكايات تفسيرا سياسيا سهلا وإن لم يستوعبوه إلا عندما كبروا فقد ظل ملتصقا بذاكرتهم حتى أصبح جزءا من وعيهم.
أردت أن أنزل بهم من سحب الخيال التى تحلق فيها الحكايات إلى أرض الواقع الحقيقى حتى لا يعيشوا فى الأوهام أو يبنوا قصورا وهمية من رمال.
إن حكايات الأطفال على بساطة أسلوبها وطفولة أحداثها ووضوح طبائع أبطالها وجاذبية سردها وسهولتها فيها من النبوءات والتفسيرات العميقة ما لا نجده أحيانا فى كتب الفلسفة والدراسات السياسية والأبحاث الأكاديمة المتخصصة.
وربما.. لو كشفنا للكبار ما تخبئه من حكمة فإنهم ربما اتخذوا قرارات صائبة يتلافون بها تكرار أخطائهم المتكررة.
فى قصة «ذات القبعة الحمراء» التى أبدعها كاتب فرنسى مجهول هو « شارل بيرو « يلتهم الذئب الجدة العجوز.. ويرتدى ثيابها.. ويختبئ تحت فراشها.. ويضع على عينيه نظارتها.. ليخدع الطفلة البريئة «ليلى» قبل أن يفترسها فى وجبة دسمة على العشاء.
لكن.. قبل الوليمة الشهية جرى بين الصغيرة والوحش حوار مثير سجله فى أحد مقالاته نزار قبانى بطريقته الخاصة:
لماذا عيناك كبيرتان يا جدتى؟
حتى أراك أجمل.. يا حبيبتى.
ولماذا أذناك طويلتان؟
حتى أسمع نغمات صوتك العذب.. يا نور عينى.
ولماذا اتسع فمك فجأة؟
حتى أقبلك بمزيد من الحنان.. يا ضناى.
ولماذا أسنانك حادة؟
حتى أمضغ لحمك بسرعة.. يا روح جدتك.
اعتبرت هذه القصة قصة سياسية موحية.. فالطفلة البريئة صار اسمها مصر.. والغابة فى الحكاية صار اسمها سيناء التى التهمها الذئب الإسرائيلى مرتين.. مرة بهزيمة جمال عبدالناصر عسكريا فى حرب يونيو ومرة أخرى بمناورة سياسية مع أنور السادات تجسدت فى معاهدة كامب ديفيد.
وما إن طردنا الذئب الإسرائيلى من سيناء حتى ظهر ذئب آخر خرج من بيننا.. لم يتنكر هذه المرة فى شخصية الجدة العجوز وإنما تنكر فى شخصية متشدد دينيا يكفر ويفجر ويعتبر نفسه خليفة الله على الأرض.. لكنه.. فى الحقيقة يسعى لالتهام أرض الله.. حيث كلم موسى ربه.. ومر بها عيسى طفلا.. وعبرها أشرف خلق الله محلقا فى رحلة الإسراء.
وفى الوقت نفسه زادت شهية الذئب الإسرئيلى لتمتد إلى الضفة الغربية والجولان والقدس التى أعلنها عاصمة لمملكته التوسعية المتوحشة.
ويبدو.. أننا لم نتعلم الدرس.. ولم نستوعب ما فيه من عظة سياسية.. فما زلنا ننتظر سلاما من الذئب دون أن ندرك أن رحلتنا مع الذئب ليست رحلة طبيعية.. والإقامة معه ليست إقامة مريحة.. والنوم معه فى فراش واحد ينتهى بافتراسنا.. والمفاوضات السلمية الحضارية معه لن تحوله إلى ذئب مثقف متدين يخشى الله ويحترم الجيرة ويعيد الحقوق إلى أصحابها.. فطبيعة الذئب النفسية والعصبية والعقلية محكومة بطول أنيابه وحدة أظافره وشهوته فى الفتك بفريسته.
لقد حان الوقت لكى نكف عن الرقص مع الذئب وألا نتعامل معه معاملة «جنتلمان» فهو فى النهاية من فصيلة «الكواسر» ولو ارتدى بابيونا ودخن سيجارا ونطق شعرا فنحن فى عينيه وأذنيه وأسنانه لسنا سوى «ليلى» أخرى سيلتهم لحمها ويقرقش عظامها ويلهو بقبعتها التى كانت بيضاء قبل أن تصبغ بدمائها لتصبح حمراء.
ولو كانت «ليلى» ضحية فإن «سندريلا» ساذجة.
لقد هربت تلك الفتاة اليتيمة من قسوة زوجة الأب وبنتيها إلى صحبة الطيور والفئران والزواحف.. وهربت من النوم على بلاط بارد لا تحميها منه ثيابها المهلهلة إلى حلم بساحرة طيبة تحولها من هيئة خادمة إلى هيئة برنسيسة لتذهب إلى حفل الأمير الذى دعا إليه كل الفتيات لاختيار عروسه.. وفى لحظات وقع فى هواها.. أحبها قبل أن يكمل رقصته معها.. ولكنها.. جرت منه هاربة والساعة تدق الثانية عشرة ليلا خشية أن ينتهى مفعول السحر وتنكشف حقيقتها.. وفى جريها فقدت حذاءها الزجاجى المميز.
لم يطق الأمير اختفاءها.. وكلف رجاله بالطواف على كل فتيات الإمارة ليجربن الحذاء فى انتظار العثور على من يدخل الحذاء فى قدمها ليتزوجها.. فالحذاء هو المرشد الوحيد إليها.. والدليل الوحيد عليها.. وهى نقطة ضعف فى الحكاية.. فالمؤكد أن سندريلا لا تنفرد وحدها بمقاس القدم الذى يصلح للحذاء.. وهناك بالقطع عشرات الفتيات اللاتى لهن نفس مقاس القدم ويناسبهن الحذاء.. ولو كان الأمير قد وعد صاحبة الحذاء بالزواج فإنه ربما تورط فى الاقتران بفتاة قبيحة لها نفس مقاس القدم ووصل إليها رجاله قبل سندريلا.
لكن.. الأخطر فى الحكاية.. أن الفتاة المعدمة لم تفكر فى سبيل للانتقال «الطبقى» ــ من قبر تعيش فيه إلى قصر تحلم به ــ إلا بمعجزة سحرية خرافية يصعب تحقيقها إلا فى الخيال.
إن الإنسان لا يصعد درجات السلم الاجتماعى إلا بالتفوق فى التعليم ليصبح بمعرفته وموهبته وثقل شخصيته مميزا ومؤثرا.
وهنا كان التعليم المجانى ضرورة لمنح الفقراء فرصتهم الوحيدة «الشريفة» لتغيير واقعهم المر.. وفى زمن أصبح فيه الحصول على شهادة عليا جيدة يحتاج ثروة مالية لا تتوافر إلا لقلة محدودة لم يعد أمام غالبية البسطاء سوى البحث عن وسائل غير مشروعة لتحقيق طموحاتهم.. سرقة.. دعارة.. تهريب.. وتجارة مخدرات.. أو اللجوء إلى الخرافة بالسحر الأسود أو الزئبق الأحمر على طريقة سندريلا.
إن الذين يطالبون بإلغاء مجانية التعليم والعلاج يحكمون على ملايين الملايين الفقراء بالبقاء فى واقعهم دون حراك.. وهو حكم جائر.. يحرم المجتمع من مواهب تموت قبل أن تتفتح.. فحبات الماس وعروق الذهب تستخرج من الطين أحيانا.
لكن.. لو كانت «سندريلا» شديدة البلاهة فإن «بيروس» شديد الجرأة.
كان السلطان فى تلك المملكة الغنية مجنونا بالثياب إلى حد أن خصص فى حكومته وزيرا للموضة يطلعه على آخر خطوطها ويأتى إليه بأفخر أقمشتها وأروع مصمميها.. وأمام نشوة ارتداء ثياب جديدة ــ يزهو بها ــ لم يكن السلطان ليتردد فى إرهاق خزانة بلاده بالديون حتى كادت تفلس بعد أن كانت من أكثر البلاد رخاء واستقرارا.
ويرمز الثوب هنا إلى المظاهر الاستعراضية التى يلجأ إليها بعض الحكام ليعوضوا الفشل فى سياستهم.. وكأنه.. يكفى.. أن يعيش رجل واحد فى نعيم.. أو تعيش طبقة واحدة فى ترف.. على حساب أمة بأكملها.
وذات يوم قررت مجموعة من المحتالين النصب على السلطان مستغلة نقطة ضعفه التى اشتهرت عنه بأن أقنعته بأنها قادرة على نسج له ثوب نادر من خيوط القمر على أن يدفع لها ما يطلب من ذهب وفضة وخيول وقصور ووافق الملك على الفور وهو يكاد يطير فرحا حتى ارتطمت رأسه بالسماء فكاد يسقط مغشيا عليه.
وعاش المحتالون فى القصر شهورا طويلة بحجة أن خيوط القمر نادرة ويصعب الحصول عليها إلا فى الساعات القليلة التى يكون القمر فيها بدرا مكتملا.
لكن.. السلطان بعد طول صبر أصابه الملل.. وهدد المحتالين.. إما الانتهاء من الثوب أو يطيح برقابهم.. فدعوه فى جناحهم لارتداء ما نسجوه من خيوط القمر.. وخلع السلطان ملابسه كلها.. وارتدى الثوب الذى صنعوه.. ووقف ينظر فى المرآة معجبا بالثوب وبنفسه.. وألقى للمحتالين بكل ما يملك من مال.. فقد نال معجزة لم ينلها قبله حاكم.
وفى الليل دعا السلطان عائلته وحاشيته وحكومته على العشاء ليريهم الثوب المعجزة الذى أجهز على ما تبقى من عقله.. وصفق الجميع للسلطان.. وأبدوا إعجابهم بالثوب.. وراحوا يتغزلون فيه.. ويشيدون بمواصفاته.. ويركزون على مميزاته.. فتضاعف شعور السلطان بالنشوة.. ومنح المعجبين بالثوب أعلى ما فى بلاده من أوسمة ونياشين.
وقرر الاستجابة لاقتراح كبير مستشاريه بأن ينزل إلى الشعب بالثوب ليعرف الشعب أنه محكوم بسلطان شديد الأناقة والتميز مما سيدخل الفرحة فى القلوب التى هدها وأحزنها وكسرها الفقر والضعف والبرد والمرض.
وخرج السلطان إلى الرعية فى موكب كبير مكشوف.. ووقف فى عربته الذهبية يحيى الناس وهو بثوبه النادر.. وأعجب الناس بالثوب.. وانحنوا احتراما لشياكة مولاهم وأناقته وسمو مكانته.. نسوا الجوع.. وكفوا عن السعال.. ولم تعد أجسامهم النحيلة الهزيلة ترتعش من البرد.. ودبت فيهم الروح من جديد.
لكن.. صبيًا صغيرًا اسمه «بيروس» كان أبوه يحمله على كتفيه ليرى السلطان صرخ فجأة بصوت مرتفع: «السلطان عريان».. «السلطان عريان».. فاكتشف الشعب الحقيقة التى لم يرد أن يراها.. وراحت الجموع تكرر وراء الصبى: «السلطان عريان».. «السلطان عريان».
لقد أزالت البراءة الغشاوة التى وضعها الكبار على عيونهم مختارين بحكم جنى المصالح أو المناصب أو بحكم الخوف من البطش والتعذيب لو خرج النقد من الضمائر إلى الحناجر.
دون المكاشفة تتفجر الفضائح السياسية.. ودون المواجهة تنكفئ السلطة على وجهها.. ودون أن يدخل الأكسجين إلى العقول المغلقة تختنق بالكربون الفاسد.
لو تقبل السلطان النقد مبكرا لما وجد نفسه عاريا وسط شعبه.. لو استجاب للنصيحة مبكرا لما انتهى حزينا وحيدا مثل طاووس منكسر لملم جناحيه وانطوى على نفسه ليشرب دموعه فى صمت.
لقد كنت على حق عندما علمت أولادى كيف يفهمون الحكايات على حقيقتها فنجوا من سحرها المنوم.. وعاشوا وتعلموا وتفوقوا مفتوحى العقول والقلوب والعيون.. وعندما مارسوا معى حقهم فى النقد لم أنهرهم أو أسكتهم وكانوا فى كثير من الأحيان على حق.. وعندما كبروا واستقلوا بحياتهم واختياراتهم صرنا جميعا عائلة من الأصدقاء.