تفسير الشعراوي للآية 36 من سورة النساء
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}.
وعندما يقول لنا الحق: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} أي: إياكم أن تدخلوا في قضية من هذه القضايا؟ على غير طاعة الله في منهجه.. والعبادة هي: طاعة العابد للمعبود، فلا تأخذها على أنها العبادات التي نفعلها فقط من: الصلاة والصوم والزكاة والحج؛ لأن هذه أركان الإسلام، وما دامت هذه هي الأركان والأسس التي بني عليها الإسلام، إذن فالإسلام لا يتكون من الأركان فقط بل الأركان هي الأسس التي بني عليها الإسلام، والأسس التي بني عليها البيت ليست هي كل البيت؛لذلك فالإسلام بنيان متعدد. فالذين يحاولون أن يأخذوا من المصطلح التصنيفي، أو المصطلح الفني في العلوم ويقولون: إن العبادات هي: الصلاة وما يتعلق بها.. والزكاة والصوم والحج؛ لأنها تسمى في كتب الفقه (العبادات) فلقد قلنا: إن هذا هو الاسم الاصطلاحي، لكن كل أمر من الله هو عبادة.
ولذلك فبعض الناس يقول: نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم: العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة الولاء لله. وتعطي شحنة لنستقبل أحداث الحياة، ولكن الشعائر وحدها ليست كل العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض، فالحق سبحانه وتعالى قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9].
كأنه أخرجهم من البيع إلى الصلاة، ولم يخرجهم من فراغ بل أخرجهم من حركة البيع، وجاء ب (البيع) لأنه العملية التي يأتي ربحها مباشرة؛ لأنك عندما تزرع زرعاً ستنتظر مدة تطول أو تقصر لتخرج الثمار، لكن البيع تأتي ثمرته مباشرة، تبيع فتأخذ الربح في الحال. والبيع- كما نعلم- ينظم كل حركات الحياة، لأن معنى البيع: أنه وسيط بين منتج ومستهلك، فعندما تبيع سلعة، هذه السلعة جاءت من منتجٍ، والمنتج يبحث عن وسيط يبيعها لمستتهلك، وهذا المستهلك تجده منتجاً أيضاً، والمنتج تجده أيضاً مستهلكاً. فالإنتاج والاستهلاك تبادل وحركة الحياة كلها في البيع وفي الشراء، وما دام هناك بيع ففيه شراء. فهذا استمرار لحركة الحياة. والبائع دائماً يحب أن يبيع، لكن المشتري قد لا يحب أن يشتري؛ لأن المشتري سيدفع مالاً والبائع يكسب مالاً، فيوضح الله: أتركوا هذه العملية التي يأتي ربحها مباشرة، ولبّوا النداء لصلاة الجمعة. لكن ماذا بعد الصلاة؟ يقول الحق: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
إذن فهذا أمر أيضاً. فإن أطعنا الأمر الأول: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فالأمر في {فانتشروا فِي الأرض} يستوجب الطاعة كذلك. إذن فكل هذه عبادة، وتكون حركة الحياة كلها عبادة: إن كانت صلاة فهي عبادة، والصوم عبادة، وبعد ذلك.
ألا تحتاج الصلاة لقوام حياة؟ لابد أن تتوافر لك مقومات حياة حتى تصلي. وما هي مقومات حياتك؟ إنها طعام وشراب ومسكن ومَلْبس، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن فجماع حركة الحياة كلها سلسلة عبادة، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
إذن فكل عمل يؤدي إلى عمارة الكون واستنباط أسرار الله في الوجود يعتبر عبادة لله؛ لأنك تخرج من كنوز الله التي أودعها في الأرض ما يلفت الناس إلى الحقيقة الكونية التي جاء بها الإيمان.
وإياك أن تظن أن العبادة هي فقط العبادة التصنيفية التي في الفقه (قسم العبادات) و(قسم المعاملات).. لا، فكله عبادة، لكن الحركات الحياتية الأخرى لا تظهر فيها العبادة مباشرة؛ لأنك تعمل لنفعك، أما في الصلاة فأنت تقتطع من وقتك، فسميناها العبادة الصحيحة؛ لأن العمليات الأخرى يعمل مثلها من لم يؤمن بإله، فهو أيضا يخرج للحياة ويزرع ويصنع.
ولماذا سموها العبادات؟ لأن مثلها لا يأتي من غير متدين. إنما الأعمال الأخرى من عمارة الكون والمصلحة الدنيوية فغير المتدين يفعلها ولكن كل أمر لله نطيعه فيه اسمه عبادة. هذا مفهوم العبادة الذي يجب أن يتأكد لنا أن نخلص العمل بالعقول التي خلقها الله لنا بالطاقات المخلوقة لنا، في المادة المخلوقة وهي الأرض وعناصرها لنرقي بالوجود إلى مستوى يسعدنا ويرضي الله عنه.
{واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}. بعدما قال كل هذا الكلام السابق، لفتنا ربنا إلى قضية يجب أن نلحظها دائما في كل تصرفاتنا هي أن نأتمر بأمر الله في منهجه، وألا نشرك به شيئاً؛ لأن الشرك يضر قضية الإنسان في الوجود، فإن كنت في عمل إياك أن تجعل الأسباب في ذهنك أمام المسبب الأعلى.. بل اقصد في كل عمل وجه الله.
ويضرب الحق المثل لراحة الموحد ولتعب المشرك فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
فهذا عبد مملوك لجماعة، والجماعة مختلفة ومتشاكسة، وهو لا يعرف كيف يوفق بين أوامر كل منهم التي تتضارب، فإن أرضي هذا، أغضب ذاك. إذن فهو عبد مبدد الطاقة موزع الجهد، مقسم الالتفاتات، ولكن العبد المملوك لواحد، لا يتلقى أمراً إلا من سيد واحد ونهياً من السيد نفسه. والحق يشرع القضية لعباده بصيغة الاستفهام، وهو العليم بكل شيء ليجعل المؤمن به يشاركه في الجواب حتى إذا ما قال الحق: (هل يستويان)؟ هنا يعرضها الإنسان على عقله ويريد أن يجيب، فماذا يقول؟ سيجيب بطبيعة الفطرة وطبيعة منطق الحق قائلاً: لا يا رب لا يستويان.
إذن فأنت أيها العبد المؤمن قد قلتها، ولم يفرضها الله عليك. وقد طرحها الحق سبحانه سؤالاً منه إليك؛ حتى يكون جوابك الذي لن تجد جواباً سواه. فإذا ما كنت كذلك أيها العبد المؤمن قد ارتحت في الوجود وتوافرت لك طاقتك لأمر واحد ونهي واحد، هنا تصبح سيداً في الكون، فلا تجد في الكون من يأخذ منك عبوديتك للمكون، وتلك هي راحتنا في تنفيذ قول الله: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} لأن الإشراك بالله- والعياذ بالله- يرهق صاحبه، ويا ليت المشركين حين يشركون يأخذون عون الله، ولا يأخذون عون الشركاء. لكن الله يتخلى عن العبد المشرك، لأنه سبحانه يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
الحق إذن يتخلى عن العبد المشرك. وليت العبد المشرك يأخذ حظه من الله كشريك.. وإنما ينعدم عنه حظ الله؛ لأن الله غني أن يشرك معه أحدا آخر. وهكذا يكون المشرك بلا رصيد إيماني، ويحيا في كد وتعب. ويردف الحق سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين فيأتي قوله- جل شأنه-: {وبالوالدين إِحْسَاناً} والوالدان هما الأب والأم؛ لأنهما السبب المباشر في وجودك أيها المؤمن. وما دامت عبادتك لله هي فرع وجودك، إذن فإيجادك من أب وأم كسببين يجب أن يلفتك إلى السبب الأول؛ إن ذلك يلفتك إلى من أوجد السلسلة إلى أن تصل إلى الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام.
{وبالوالدين إِحْسَاناً}.. انظر إلى المنزلة التي أعطاها الله للوالدين، وهما الأب والأم. والخطاب لك أيها المسلم لتعبد الله، والتكليف لك وأنت فرع الوجود؛ لأن الخطاب لمكلف، والتكليف فرع الوجود، والوالدان هما السبب المباشر لوجودك، فإذا صعّدت السبب فالوالدان من أين جاءا؟.. من والدين، وهكذا حتى تصل لله، إذن فانتهت المسألة إلى الواحد؛ لأن التكليف من المُكلِّف إلى المُكلَّف فرع الوجود. والوجود له سبب ظاهري هما (الوالدان)، وعندما تسلسلها تصل لله إنه سبحانه أمر: اعبدني ولا تشرك بي شيئا، وبعد ذلك.. {وبالوالدين إِحْسَاناً}.. كلمة (الإحسان) تدل على المبالغة في العطاء الزائد.. الذي نسميه مقام الإحسان.
{وبالوالدين إِحْسَاناً}.. الحق سبحانه وتعالى حينما قرن الوالدين بعبادته، لأنه إله واحد ولا نشرك به شيئا، لم ينكر أو يتعرض لإيمانهما أو كفرهما؛ لأن هناك آية أخرى يقول فيها: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15].
صحيح لا تطعهما ولكن احترمهما؛ لأنهما السبب المباشر في الوجود وإن كان هذا السبب مخالفاً لمن أنشأه وأوجده وهو الله- جلت قدرته- {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} والمعروف يصنعه الإنسان فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، إياك أن يكون قلبك متعلقاً بهما إن كانا مشركين، لكن صاحبهما في الدنيا معروفاً؛ ولذلك قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا} أي انظر مصلحتهما في أمور الدنيا معروفًا منك.
والمعروف تصنعه فيمن تحب وفيمن لا تحب.
والحق يقول: {وبالوالدين إِحْسَاناً}.. ويكررها في آيات متعددة.. فقد سبق في سورة البقرة أن قال لنا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً} [البقرة: 83].
وبعد ذلك تأتي هذه الآية التي نحن بصددها.. {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً}.
وبعد ذلك يأتي أيضاً قوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} [الأنعام: 151].
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15].
ويأتي أيضاً في سورة العنكبوت فيقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8].
لكن إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها، فإن كان الوالدان مشركين فلابد أن نعطف عليهما معروفا.. والمعروف كما أوضحنا يكون لمن تحب ومن لا تحب، ولكن الممنوع هو: الودادة القلبية؛ ولذلك قال: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
ولا يوجد تناقض أو شبه تناقض بين الآية التي نحن بصددها وبين آية سورة المجادلة. وهناك آيات تكلم فيها الحق وقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وهناك آيتان جاء الأمر فيهما بالتوصية وبالوالدين استقلالا.
وذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15].
وفي قوله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8].
ففيه (إحسان) وفيه (حسن)، (الإحسان): هو أن تفعل فوق ما كلفك الله مستشعراً أنه يراك. فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و(الإحسان) من (أحسن)، فيكون معناها أنه ارتضى التكليف وزاد على كلفه. وعندما يزيد الإنسان على ما كلفه الله أن يصلي الخمس المطلوبة ثم يجعلها عشرة، ويصوم شهر رمضان، ثم يصوم يومي الاثنين والخميس أو كذا من الشهور، ويزكي حسب ما قرر الشرع باثنين ونصف في المائة وقد يزيد الزكاة إلى عشرة في المائة، ويحج ثم يزيد الحج مرتين. إذن فالمسألة أن تزيد على ما افترض الله، فيكون قد أدخلك الله في مقام الإحسان؛ لأنك حين جربت أداء الفرائض ذقت حلاوتها. وعلمت مما أفاضه الله عليك من معين التقوى ومن رصيد قوله: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282].
علمت أن الله يستحق منك أكثر مما كلفك به؛ ولذلك فبعض الصالحين في أحد سبحاته قال: (اللهم إني أخشى ألا تثيبني على الطاعة لأنني أصبحت أشتهيها).. أي صارت شهوة نفس، فهو خائف أن يفقد حلاوة التكليف والمشقة فيقول: يا رب إنني أصبحت أحبها، ومفروض منا أننا نمنع شهوات أنفسنا لكنها أصبحت شهوة فماذا أفعل؟
إذن فهذا الرجل قد دخل في مقام الإحسان واطمأنت نفسه ورضيت وأصبح هواه تبعا لما أمر به الله ورضيه.
ولذلك يجب أن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن المتقين قال: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15-16].
لماذا هم محسنون يا رب؟
يقول الحق: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
وهل كلفني الله. ألا أهجع إلا قليلاً من الليل؟ إن الإنسان يصلي العشاء من أول الليل وينام حتى الفجر، هذا هو التكليف، لكن أن تحلو للمؤمن العبادة، ويزداد الإيمان في القلب والجوارح، ويأنس العبد بالقرب من الله، فالحق لا يَرُدَّ مثل هذا العبد بل إنّه يستقبله ويدخله في مقام الإحسان: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 16-18].
وربنا لم يكلفهم بذلك، إنما كلفهم فقط بخمسة فروض. ونعرف قصة الأعرابي الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: هل عليّ غيرها؟ قال له: لا، إلا أن تَطّوَّعَ، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطّوّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق".
وبذلك دخل هذا الأعرابي في نطاق المفلحين. إذن فالذي يزيد على هذا يدخله الله في نطاق المحسنين. {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 17-19].
ولنلحظ دقة الأداء، إن الحق لم يذكر أن للمحرومين في أموال المحسنين حقاً معلوماً. لماذا؟؛ لأن الحق سبحانه- ترك للمحسن الحرية في أن يزيد على نسبة الزكاة التي يمنحها للسائل والمحروم، وحينما يتكلم سبحانه عن مطلوب الإيمان يقول: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 24-25].
إذن فالذي يزيد على ذلك ينتقل من مقام الإيمان ليدخل في مقام الإحسان. كأنه يقول لك في الآية التي نحن بصددها: إياك أن تعمل مع والديك القدر المفروض فقط، بل ادخل في برّهما والإنعام عليهما والتلطف بهما والرحمة لهما وذلّة الانكسار فوق ما يطلب منك، ادخل في مقام الإحسان، ثم يأتي في آية أخرى ليرشدنا بعد أن أدخلنا في مقام الإحسان، إنّه يصف ذلك الإحسان بشيء آخر وهو (الحسن): {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنبكوت: 8].
وما هو المقابل (للحسن)؟ إنه (القبح)، إذن فالحق أدخلنا في مقام الجمال مرة، وفي مقام الإحسان مرة أخرى، وهنا أكثر من ملحظ يجب ألا يغيب عن بال المسلم، أولاً: نجد أن المفروض في الشائع الغالب أنّ الوالدين يربيان أبناءهما، ومن النادر أن يصبح الولد يتيماً ويربيه غير والديه، فقال: الحظ سبب التربية بعد الوجود، فسبب الوجود: يوجب عليك أن تعطيهما حقوقهما وفوق حقوقهما وتدخل في مقام الإحسان، ولكنه جاء في آية وعلل ذلك فقال: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24].
لقد جاء الحق بالتربية حيثية في الدعاء لهما وفي البر التوصية بهما، لكن لو أن إنساناً أخذ فيك منزلة التربية ولم يأخذ فيك سببية الإيجاد، أله حق عليك أن يكون كوالديك؟
إن الحق يقول: {كَمَا رَبَّيَانِي}، فإذا كان والدي لهما هذا الحق، فكذلك من قام بتربيتي من غير الوالدين له هذا الحق أيضاً! ما دام جاء الحق بالوالدين في علة الإحسان: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.. فمرة نلحظ أنه لا يجيء بمسألة التربية كي نعلم أن الوالدين هما سبب الوجود، ومرة يلفتنا إلى أن من يتولى التربية يأخذ حظ الوالدين، وشيء آخر: وهو أن الحق سبحانه وتعالى حينما وصى بالوالدين إحسانا، جاء في الحيثيات بما يتعلق بالأم ولم يأت بما يتعلق بالأب: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15].
هنا جاء الحق بالحيثيات للأم وترك الأب بدون حيثية، وهذا كلام رب؛ لأن إحسان الوالدة لولدها وجد وقت أن صار جنيناً. فهي قد حافظت على نفسها وسارت بحساب وحرص فانشغلت به وهو مازال جنيناً. وحاولت أن توفر كل المطالب قبلما يتكون له عقل وفكر. بينما والده قد يكون بعيداً لا يعرفه إلا عندما يكبر ويصير غلاماً ليربيه لكفاح الحياة، أما في الحمل والمهد فكل الخدمات تؤديها الأم ولم يكن للطفل عقل حتى يدرك هذا، إنما بمجرد أن وجد العقل وجد أباه يعايشه ويعاشره، وكلما احتاج إلى شيء قالت له الأم: أبوك يحققه لك، وكل حاجة يحتاج إليها الطفل يسأل أباه أن يأتيه بها، وينسي الطفل حكاية أمه وحملها له في بطنها وأنها أرضعته وسهرت عليه؛ لأنه لم يكن عنده إدراك ساعة فعلت كل ذلك، فمن الذي- إذن- يحتاج إلى الحيثية؟ إنها الأم، أما حيثية إكرام الأب فموجودة للإنسان منذ بدء وعيه لأنه رأى كل حاجته معه؛ لذلك قال الحق: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15].
والطفل لا يعرف حكاية الحمل هذه، وعندما يتنبه يجد أن والده هو الذي يأتي بكل حاجة، وما دام أبوه هو الذي في الصورة، فتكون الحيثية عنه موجودة، والأم حيثيتها مغفولة ومستورة، فكان لابد من أن يذكرنا الله بالحيثية المتروكة عند الإنسان مكتفياً بالحيثية للأب الموجودة والواضحة عند الابن، ولذلك تجد النبي صلى الله عليه وسلم حينما يوصيّ قال: أمك ثم أمك ثم أمك، وبعد ذلك قال: ثم أبوك.
كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك).
ولو حسبتها تجدها واضحة، وأيضا فالأبوة رجولة، والرجولة كفاح وسعي. والأمومة حنان وستر، فهي تحتاج ألا تخرج لسؤال الناس لقضاء مصالحها، أبوك إن خرج ليعمل فعمله شرف له. إنما خروج الأم للسعي للرزق فأمر صعب على النفس، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وبالوالدين إِحْسَاناً}.. أو (بوالديه حسنا) إنها.. مقرونة في ثلاث آيات بعبادة الله وعدم الإشراك به، ثم أفردهما بالإحسان في آيتين، ويلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم قال: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].
لكن هذا لا يمنع أن تعطيهما المعروف وما يحتاجان إليه، ونلحظ أن الحق لم يأت لهما بطلب الرحمة وهما على الشرك والكفر كما طلبها لهما في قوله: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24].
لأنهما وإن ربي جسد الولد فلم يربيا قلبه وإيمانه، فلا يستحقان أن يقول: ارحمهما؛ لأن الحق أراد أن يسع الولد والديه في الدنيا وإن كانا على الكفر.
والحق سبحانه وتعالى حينما يريد أن يشيع الإحسان في الكون كله، يبتدئ بالأقرب فالقريب فالجار، فقال: {وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى}. إذن ففيه دوائر. ولو أن كل واحد أحسن إلى أبوية. فلن نَجد واحداً في شيوخته مهيناً أبداً، لذلك يوسع سبحانه دوائر الهمّة الإيمانية فجاء بالوالدين ثم قال بعدها: {وَبِذِي القربى} أي صاحب القربى، وما القربى؟ إن كل من له علاقة نَسَبيَّة بالإنسان يكون قريباً. هذه هي الدائرة الثانية، ولو أن كل إنسان موسعاً عليه وقادراً أخذ دائرة الوالدين ثم أخذ دائرة القربى فستتداخل ألوان البر من أقرباء متعددين على القريب الواحد، وما دامت الدوائر ستتداخل، فالواحد القريب سيجد له كثيرين يقومون على شأنه فلا يكون أحد محتاجا.
وبعد ذلك يتكلم سبحانه عن اليتامى، واليتيم- كما نعلم- هو: من فقد أباه ولم يبلغ مبلغ الرجال، إنه يحتاج إلى حنان أولي. ولكن بعد أن يبلغ مبلغ الرجال فهو لا يُعتبر يتيماً؛ فقد أصبح له ذاتية مستقلة؛ ولذلك يتخلى عنه الوصف باليتيم، والذي تموت أمه لا نسميه (يتيماً)، لكن اليتيم في الحيوانات ليس من فقد أباه بل من فقد أمه، وإن كانت طفولة الحيوانات تنتهي بسرعة؛ لأن والدة الحيوان هي التي ترعاه في طفولته القصيرة نسبيًا.
إذن فيتم الحيوان من جهة الأم، والإنسان يتمه هو فَقْد الأب؛ لأن الإنسان أطول الحيوانات طفولة لأنه مُربيَّ لمهمة أسمى من الحيوانية، وعرفنا من قبل أنك عندما تأتي لتزرع- مثلاً- فِجلاً.. فبعد خمسة عشر يوماً تأكل منه، لكنك حينما تزرع نخلة أو تزرع شجرة (مانجو) تمكث كذا سنة، حتى تثمر.. إذن فطول مدة الطفولة وعدم النسل للمثل يتوقف على المهمة الموكلة للشيء، فإن كانت مهمته كبيرة، تكن مدة طفولته أطول.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يوسع دائرة الإحسان. فإياك أن تقتصر على الوالدين فقط أو أصحاب القربى فقط. خذ في الدائرة أيضاً (اليتيم)، لأن اليتيم فقد أباه، ثم يرى كثيراً من زملائه وأقربائه لهم آباء، ولو لم يوصّ الحق سبحانه وتعالى بهذا اليتيم لنشأ هذا الولد وفي قلبه جذوة من الحقد على المجتمع، وقد يتمرد على الله، ويتساءل: لماذا لا يكون لي أب وكل واحد من أقراني له أب يأتيه بحاجته، لكن حين يرى أنه فقد أباً واحداً ثم وجد في الجو الإيماني آباء متعددين فهو لا يسخط على أن الله أمات أباه.
إن الذين يخافون أن يموتوا ويتركوا من بعدهم ذرية ضعافا، عليهم بالإحسان إلى اليتيم. فلو رأى الواحد منا يتيماً يُكَرم في بيئة إيوة إيمانية لما شغل نفسه ولما خاف أن يموت ويترك ولداً صغيراً، بل يقول الإنسان لنفسه: إن المجتمع فيه خير كثير، وبذلك يستقبل الإنسان قدر الله بنفس راضية، ولا يؤرق نفسه، وهذه مسألة تشغل الناس فنقول لكل إنسان قادر: إذا كنت في بيئة إيمانية. واليتيم يجد رعاية من آباء إيمانيين متعددين فسينشأ اليتيم وليس فيه حقد؛ ولذلك يقول الحق: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
لأنك إن رأيت المجتمع الإيماني قد رعى أيتام غيرك فستكون على ثقة من أنه يرعى أيتامك، فإن جاء الموت أو لم يأت فلا تشغل نفسك به، لكن إذا رأى الإنسان يتيماً مضيعاً، فهو يعض على أسباب الحياة ويريد أن يأتي بالدنيا كلها لولده، ونقول لمثل هذا الأب: اعمل لابنك بأن تضع ما تريد أن تدخره له في يد الله؛ لأن الذي خلق آمن من المخلوق؛ ولذلك قلنا من قبل: إن سيدنا معاوية وسيدنا عمرو بن العاص كانا يجلسان- في أخريات حياتهما- يتكلمان معاً، فيقول عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين: ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال معاوية: أما الطعام فقد سئمت أطيبه، وأما اللباس فقد مللت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في يوم صائف تحت ظل شجرة.
وهذه كلمة تعطي الإنسان طموحات إيمانية في الكون، فبعدما صار معاوية خليفة وأميراً للمؤمنين والكل مقبل عليه قال: حظي في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف، وهذه توجد عند ناس كثيرين.
كأن الطموح انتهى إلى ما يوجد عند كل أحد: شربة ماء بارد، ثم قال معاوية لعمرو: وأنت يا عمرو. ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال عمرو بن العاص: بقي لي أرض خوارة- يعني فيها حيوانات تخور مثل البقر- فيها عين خرارة.. أي تعطي ماءٌ وفيراً لتروي الأرض، وتكون لي في حياتي ولولدي بعد مماتي، وكان هناك خادم يخدمهما اسمه (وردان). أراد أمير المؤمنين أن يلاطفه فقال له: وأنت يا وردان، ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ انظروا إلى جواب العبد كي تعرفوا أن الإيمان ليس فيه سيد ومسود، فقال له: حظي يا أمير المؤمنين: (صنيعة معروف أضعه في أعناق قومٍ كرام لا يؤدونه إليّ في حياتي) أي لا يرون هذا الجميل لي. حتى تبقي لعقبي في عقبهم. إذن فحظه صنيعة معروف يضعه في أعناق قوم كرام لا يؤدونه إليه في حياته حتى تكون لعقبة أي لمن سيترك من أولاده.
كأنه يفهمنا أنه لا شيء يضيع، فكما تمد يدك يمد غيرك يده لك، والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا هذه المنزلة فيقول: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا،) وأشار بإصبعيه متجاورين ، أيّ منزلة هذه، فبالله بعد ذلك ألا يبحث كل واحد منّا عن يتيم يكفله لكي يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. وهذه المنزلة كانت أمنية كل صحابي.
فقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا فلان مالي أراك محزونا؟» فقال: يا نبيَّ الله شيء فكرت فيه فقال: «ما هو؟» قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليه جبريل بهذه الآية: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69].فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
فالحق يقول لهؤلاء: لا تحزنوا، فما دمتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرحون في الدنيا لأنكم معه فلا تخشوا مسألة وجودكم معه بالجنة فسوف أبعثكم معه في الجنة، فالمرء مع من أحب، ولذلك أقول لكل مسلم: ابحث عن يتيم تكفله كي تأخذ المنزلة الإيمانية، المنزلة العلية في الآخرة.
فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبّابة والوسطى وفرّج بينهما).
فقل لي: إذا عاملنا اليتيم في ضوء هذه التعاليم فماذا يحدث؟ سينتشر التكافل في المجتمع.
ويقول الحق بعد ذلك: (والمساكين).. ونعرف أن المساكين.. كما قال الفقهاء عنهم وعن الفقراء: إن كلهم في حاجة، فهل المسكين هو من لا يملك حاجة، أو الفقير هو الذي لا يملك حاجة أو يملك دون حاجته. كأن يكون إيراده مثلاً عشرة بينما حاجتهُ تحتاج إلى عشرين؟ المهم أنه يكون محتاجاً. وكلمة (فقير) مأخوذة من فقار الظهر أي مصاب بما يقصم الوسط والظهر. وهو اسم معبر.
و(مسكين) أيضاً اسم معبر من المسكنة والسكن أي ليس له استعلاء في شيء.. مغلوب ومقهور.. فاللفظ نفسه جاءه معبراً، و(الجار) كلمة (جار) تعني: عدل، كقولنا: جار عن الطريق أي عدل عنه، فكيف أسمى من في جانبي (جاراً)؟ لأن مَن في جانبك حدد مكاناً له من دنيا واسعة، فيكون قد ترك الكثير وجاء للقليل، وأصبح جارك، أي أنه عدل عن دنيا واسعة وجاء جانبك، فيسموا الجار لمن جار، أي عدل عن كل الأمكنة الواسعة وجاء إلى مكان بجانبك.
وهذا الجار يوصي به الله سبحانه وتعالى كما أوصي بالقريب، وباليتيم وبالمسكين، للجار حقوق كثيرة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: "الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا. وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق: فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم".
ويقول صلى الله عليه وسلم في حق الجار: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
أي سيجعل له من الميراث، وما هي حدود الجار؟ حدوده: الأقرب بابا إليك، إلى أربعين ذراعاً، وقالوا: إلى أربعين داراً، هنا يقول الحق: {والجار ذِي القربى}. فأعطاه حق القربى وحق الجوار، وقال؛ {والجار الجنب}، لأن فيه جاراً قريباً وجاراً بعدياً وقوله:(الجنب) أي البعيد، {والصاحب بالجنب} {الصاحب} هو المرافق. {بالجَنْب} أي بجانبه، قالوا: هو الزوجة أو رفيق السفر؛ لأن الرفقاء في السفر مع بعضهم دائماً، أو التابع الذي يتبعك طمعاً فيما عندك من الرزق سواء كان الرزق مالاً أو علماً أو حرفة يريد أن يتعلمها منك؛ فهو الملازم لك، والخادم أيضاً يكون {بالجنب} وكل هذا يوسع الدائرة للإحسان، ولو حسبت هذه الدوائر لوجدتها كلها متداخلة. وها هو ذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأبي ذَرٍ رضي الله عنه: "يا أبا ذر إذا طبختَ مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".
والمهم أن تتواصل مع جارك، أو الجار ذي القربى: أي الذي قربته المعرفة، وكثير من الجيران يكون بينهم ودّ، وهناك جار لا تعرف حتى اسمه، فهذا هو (الجار الجنب)، و(الصاحب بالجنب وابن السبيل) وابن السبيل، فقد تقول مثلاً: فلان بن فلان، كأنك لا تعرف أباه، أو تقول: فلان ابن البلد الفلانية أي لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه منسوب لبلد معين، وعندما تقول: ابن سبيل تعني أنه غريب انقطعت به كل الأسباب حتى الأسباب التي يمكن أن تعرفه بها، فساعة تراه تقول (ابن السبيل) أي ابن طريق، ولا تَجد مكانا ينسب إليه إلا الطريق، لا يجد أبا ينسب إليه، لا يجد أمّا، لا يجد قبيلة، لا تعرف عه شيئا.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وسبق أن تكلمنا عن ملك اليمين وقلنا: إن الإسلام إنما جاء لا ليشرع رقاً.. ولكن جاء لينهي رقاً، ويسد منابعه التي كانت موجودة قبل الإسلام، ولا يبقى إلا منبع واحد. هذا المنبع الواحد هو الحرب المشروعة، ولماذا لم يطلقهم؟. لأن الحرب المشروعة عرضة أن يأخذ الخصوم من أبنائي وأنا آخذ من أبنائهم، فلا أطلق أبناءهم إن جاءوا في يدي حتى يطلقوا أبنائي الذين في أيديهم، ويصير الأمر إلى المعاملة بالمثل، التي انتهى إليها العالم الحديث وهي تبادل الأسرى.
وقد نهانا الإسلام في ملك اليمين عن أن يقال: (عبدي) بل يقال: فتاي. ولا يقال: (أمتي) بل يقال: فتأتي، حتى التسمية أراد الشرع أن يهذبها، كي لا تنصرف العبودية إلا لله.
الحق سبحانه وتعالى جاء بالإسلام والرق كان موجوداً، وله ينابيع متعددة فوق العشرين، وليس له إلا مصرف واحد هو إرادة السيد، فجاء الإسلام ليصفي الرق، وأول تصفية لشيء هو أن تسد منابعه. وبدل أن يكون مجرد مصرف واحد، وهي رغبة السيد، جعل له الإسلام مصارف متعددة، إذن فنكون قد حددنا المنابع في نبع واحد، وعددنا المصارف.. فالذنب بينك وبين الله تكفره بأن تعتق رقبة، أي أحدثت ظهاراً مثلا تُعتق رقبة، وهذه رغبة من يريد أن يصفي الرق، فإذا لم توجد عند أي مالك أسباب لتصفية الرق وظل الفتى أو الفتاة تحت يمينه، فالإسلام يرشدك ويهديك: ما دمت لم تؤثر أن تعتقه واستبقيته فأحسن معاملته، أطعمه مما تطعم وألبسه مما تلبس، ولا تكلفه ما لا يطيق، فإن كلفته فيدك معه، وهات لي واحداً يلبس من ملابس سيده ويأكل مثله وعندما يعمل عملاً فوق طاقته تجدُ يَد السيد بيده.. أليست هذه هي المعاملة الطيبة! قال الله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وبعد ذلك يجيء الحق سبحانه وتعالى في ختام الآية بما يدك كبرياء ذي الإحسان، فإياك أن تكون النعمة أو البذل الذي ستبذله يعطيك في نفسك غرور الاستعلاء؛ لأن غرور الاستعلاء هذا يكون استعلاء كاذباً. وأنت إذا استعليت على غيرك بأعراض الحياة، فهذه الأعراض تتغير، ومعنى (أعراض) أنها تأتي وتزول. فالذي يريد أن يستعلي ويستكبر فعليه أن يستعلي ويستكبر بحاجة ذاتية فيه؛ ولذلك لا يوجد كبرياء إلا الله، إنما الأغيار من البشر. فنحن نرى من كان قوياً يصير إلى ضعف، ومن كان غنياً يصير إلى فقر، ومن كان عالماً يصبح كمن لا يعلم: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج: 5].
فلا كبرياء إذن لمخلوق، ومن يريد أن يستعلي ويتكبر على غيره فليتكبر- كما قلنا- بحاجة ذاتية فيه، أي بشيء لا يسلب منه، والخلق كلهم في أغيار، والوجود الإنساني تطرأ عليه الأغيار، إذن فاجعل الكبرياء لصاحبه، وإياك أن تظن أنه عندما قلنا لك: اعمل كذا وأحسن لذي القربى واليتامى والمساكين، إياك أن تحبط هذه الأعمال بأن تستعلي بها؛ لأنها موهوبة لك من الله، وما دامت موهوبة لك من الله فاستح؛ لأن الذي يتكبر هو الذي لا يجد أمام عينه من هو أكبر منه.
هات واحداً يتكبر لأن عنده مليوناً من الجنيهات ثم دخل عليه واحد آخر عنده أكثر منه ماذا يفعل؟ إنه يستحي ويتضاءل، ولا يتكبر الإنسان إلا إذا وجد كل الموجودين أقل منه، لكنه لو ظل ناظراً إلى الله لعلم أن الكبرياء لله وحده.
إذن فعندما يتكبر المتكبر، إنما يفعل ذلك لأن الله ليس في باله. لكن لو كان الحق المتكبر بذاته في باله لاستحي، فإذا كان في بالك من يعطيك لاستحييت.
إذن فمعنى المتكبر أن ربنا غائب عن باله؛ لذلك يقول الحق في ختام الآية: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} وما (الاختيال)؟ وما (الفخر)؟
إن المادة كلها تدل على زهو الحركة، ولذلك نسمي الحصان (خيلا)؛ لأنها تتخايل في حركتها، وعندما يركبها أحد تتبختر به؛ ولذلك نسمي الخيلاء من هذه. إّن (الاختيال): حركة مرئية، (والفخر) حركة مسموعة، فالحق ينهي الإنسان عن أن يمشي بعنجهية، كما نهاه عن أن يسير مائلا بجانبه ولا أن يعتبر نفسه مصدراً للنعمة حتى لا ينطبق عليه قوله سبحانه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 9-10].
أما الفخر فهو أن يتشدق الإنسان بالكلام فيحكي عما فعل وكأنه مصدر كل عطاء للبشر، والخيلاء والفخر ممنوعان، وعلى المسلم أن يمتنع عن الحركة المرئية وعن كلام الفخر، ولماذا جاء الحق بهذا هنا؟ إنه جاء به حتى لا يظن عبد أنه يحسن إلى غيره من ذاتيته، إنه يحسن مما وهبه الله.
ولا يصح أن تستخدم من أحسنت إليهم وتتخذهم عبيداً؛ لأنّك تحسن عليهم. وعندما تنظر إلى سيادتك على هؤلاء لأنك تعطيهم، فلماذا لا تنظر إلى سيادة من أعطاك؟ إنك عندما تفعل ذلك وتنظر إلى سيادة خالقك فإنك قد التزمت الأدب معه وبعدت عن الاختيال والفخر بما قدمت لغيرك، يقول الحق: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36].
وبعدما قال الحق: {وبالوالدين إِحْسَاناً} قال: {وَبِذِي القربى واليتامى}.
وتحدث عن البذل والأريحية والجود والسماح وبسط اليد، أتى سبحانه بالحديث عن المقابل وهو: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس...}.