الهوية والإصلاح.. ما هى هويتنا وما هى هويتهم ؟
بداية الإصلاح هو شأن يطالبنا به ديننا ويشجعنا عليه، قال الله -تتعالى-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117) فنحن نحرص عليه طبعًا.
حقًا لماذا الإصلاح؟ هل هو بدافع من الشعور بالمشكلات مِن التخلف والفساد والتراخي، وعدم التفاعل والاستسلام لواقع الهزيمة؟ وهل ترغب الدول الغربية وأمريكا حقًا بدعم هذا الإصلاح عندنا أم أنه شيء آخر يُراد بنا؟!
وهل استجابتنا لتلك الدعوات هي من باب ترديد الببغاء أم توافق المصالح؟ أم الخوف من المخالفة والظهور بمظهر المعاند للإصلاح؟!
لكل "أجندته".. هذه خلاصة الرد؛ فأمريكا -والغرب تابعها- ترى أنها أغرقت في مطالبة الحكام المسلمين والعرب بكبت الشعوب، وأن ذلك الكبت ولد وسيولد انفجارات، اكتوت بنارها فعلاً وتتوقع المزيد وتخشاه.
أول ما ينبغي الاهتمام به والنظر إليه عند حديثنا عن الإصلاح هو: "الهوية لمن ننتمي وكيف ننتمي؟". مَن نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف ننظر إلى غيرنا؟
وقد تستغرب من هذا.. أما زلنا نردد ذلك وندندن حوله؟
نعم؛ لأن هويتنا هي علامة شخصيتنا.. هي عنوان وجودنا.. هويتنا هي: "مَن نحن؟"؛ فكيف لا نسعى إلى تأكيد الهوية، وتلمس مواطئ أقدامنا ونحن نرغب في الإصلاح؟!
ألا ترى كيف حرصت أمريكا بمجرد تسلطها على شعب العراق على أن تغير الدستور ولو بحكومة مطعون في شرعيتها، مشكوك في تمثيلها!
إنها محاولة تقرير واقع، وبناء هوية جديدة تتوافق مع "أجندتهم" وآرائهم، فنحن ينبغي أن نحدد هويتنا التي ننطلق منها؛ إن أردنا بحق أن تتكامل الكلمات التي ينادي بها الراغبين في الإصلاح مع ما ينبغي أن يكون.
والحديث عن الهوية قد يتوافق عليه الجميع، بل قد يتخذه البعض مطية لتبرير ما آل إليه الواقع من فساد، فكثيرًا ما سمعنا أن الإصلاح ينبغي أن يكون من الداخل، وأن يتناسب مع ثقافة مجتمعاتنا وقيمها، وينطلق من جذورنا، والتي يفخر الكثيرون منا بسبقها لكافة الحضارات وتفوقها على كافة الأعراف، وهو حق لا ريب فيه، لكن هل يدركون بحق الهوية التي ينتمون إليها؟ وهل يعلمون مقتضيات انتمائهم إلى تلك الهوية؟ وهل يتفهمون الفجوة الحضارية بيننا وبين غيرنا؟!
ذلك هو مفصل القضية حتى لا يأخذنا الحماس بعيدًا.. فنردد كلمات مجاملة، إما نجامل بها أنفسنا، فنقول: إن انتماءنا هو بحق لهويتنا ولثقافة تراثنا الإسلامي أو نجامل الآخرين بدعاوى عريضة، مفادها: نحن مثلكم تمامًا، فديننا جاء بكل ما تنادون به دون تقييد ذلك بما ينبغي أن يقيد به!
وحتى لا نتوه في قضية المصطلحات، ولا نتفلسف في التعريفات.. دعونا نحصر ما نريد الحديث عنه في نقطة واحدة تجمل وتختصر كل ما نريد أن نتحدث فيه، وتلك النقطة هي: "ما موقف المجتمع المسلم مِن قضية الحلال والحرام؟"، وهو يشمل الأوامر والنواهي؛ سواء من ناحية العقيدة أو الأحكام العملية التي نطلق عليها اسم: "الفقه".
قد يبدو هذا السؤال غريبًا؛ فكيف يُسأل هذا السؤال لمجتمع مسلم؟!
والحق أنني أعذر من يستغرب، لكن دعونا نذكر بعض النقاط الأساسية التي تحدد هذه القضية، فإن بيان موقفنا تجاه الحلال والحرام في الإسلام يحسم قضية من بيده التشريع في المجتمع، ويتضمن ذلك إعادة النظر وتقليب الفكر في: بناء العلاقات الدولية والإسلامية على أساس ما أمر الله -تعالى- به من إجلال الشرع والتقيد به لا الحياء منه وتجاهله، ووالله ليس في ديننا ما يستحيا منه، بل هو مفخرة لنا، لكن بعضنا أحيانًا قد لا يستطيع الذود عنه وبيانه.
وفي الجانب الاقتصادي: لابد كذلك من اجتناب المحرمات من الربا، والبعد عن الشبهات في المعاملات المالية والبيوع، والتجارة في المحرمات وغيرها.. والبعد عن الظلم والغرر، وأن يحكم الاقتصاد بحدود الشرع وأخلاق الإسلام.
وفي الجانب التشريعي والقضائي: لابد من التحاكم إلى أحكام الشريعة، وضوابطها في إجراءات التقاضي، وغيرها.. حتى في النواحي الثقافية والإعلامية والسياحية والرياضية نجد مخالفات للشرع كثيرة.. أقلها: الاختلاط وكشف العورات، وأكبرها: ترويج الانحرافات، وتهوين الدين! ولابد لمن أراد الإصلاح بحق أن يسعى لتنقيتها مِن كل تلك المخالفات.
في تصوري.. لو حسمنا تلك النقطة؛ لتجلى لنا بحق موقفنا من قضية الهوية التي ينبغي أن تكون مرتكزًا أساسيًا في سعينا للإصلاح.
في الدستور الأوروبي الجديد تعتمد صياغة وثيقة "الشئون الثقافية" على تعابير تحتمل أكثر من تفسير، مثل قولهم في المادة الثالثة: "الحفاظ على الإرث الثقافي ذي الأهمية أوربيًا وحمايته"، وهذا دليل على أن القوم يسعون للمحافظة على قيمهم، وعقائدهم الدينية.
بل وينصون على أن ذلك مقصور على النصرانية التي تمثل في نظرهم "الإرث الثقافي أوروبيًا"، فإن كان هذا هو شأنهم مع دينهم وعقيدتهم فما الذي يمنعنا نحن أن نستمد هويتنا ودساتيرنا وقوانيننا من ديننا، فنحل ما أحل ونحرم ما حرم؟!
بينما من المقتضيات الأولية للإيمان بالله وبرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يعترف المسلم لأي قانون سواهما بأنه مساوٍ لهما أو أعلى منهما سلطة في تنظيم الحياة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات:1)، (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:49-50).
وعليه فإن المسلم لا يلتزم التزامًا مطلقًا بكل كلام يقوله بشر ما غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهما كانت منزلة ذلك البشر مِن العلم والفضل؛ ولذلك قال الإمام مالك -رحمه الله-: "كل إنسان يؤخذ مِن قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" ويشير إلى قبر النبي- صلى الله عليه وسلم-.
فالدستور بمعنى القانون الأعلى إنما هو "نصوص الكتاب والسنة"، فهل معنى ذلك ألا نكتب دستورًا؟! كلا، ولكن معناه أن نعترف في دستورنا الذي نكتبه بأنه هو نفسه محكوم بنصوص الكتاب والسنة.
إننا كثيرًا ما نتحدث عن التأصيل، فأَنَّى يكون تأصيل إذا بُني دستور البلاد على التقليد للغرب ونظمه؟! وإذا تزاحمت فيه المبادئ العلمانية مع المبادئ الإسلامية، بل إذا كانت فيه الغلبة للأولى على الثانية!
إن الغربيين يفهمون أهمية الدستور، وفي نفس الوقت يحاولون جعل نصوص تأكيد الهوية فيه مجرد معان رمزية! وهو ما نرفضه.
يقول: "فرانك إي. فوجل" مدير برنامج الدراسات الإسلامية القانونية في جامعة "هارفارد" على نقطة مهمة، وهي: "إن مجرد ذكر الإسلام في سياق دستوري، يجب ألا يكون سببًا للمبالغة في ردود الأفعال من جانب البعض".
ويضيف "فوجل" مبررًا ذلك المنطق من وجهة نظره: "إن ذلك يمكن أن يشكل موجبًا مشروعًا للخوف، ولكنه يمكن أيضًا أن يكون مجرد موضوع رمزي بحت".
وهذا بالطبع ما نرفضه؛ لأن ديننا ليس رمزًا كصليب المسيحية يعلقونه، ثم يخالفون تعاليم المسيحية! إننا نختلف فيجب علينا الالتزام الحقيقي.
يقول نبيل شبيب: "إن المرجعية العلمانية لا تتعامل مع المسيحية مثلاً تبعًا للتصور المسيحي عن العقيدة، ناهيك عن أن تصنع ذلك مع "الإسلام"، وقد بات وجوده في المجتمعات الأوربية وجودًا "عضويًا" راسخًا، بل تتعامل المرجعية العلمانية مع الأديان عامة وفق ما نشأ في الإرث الفكري والثقافي والسياسي العلماني من مفهوم تعميمي حول العقيدة، بل ويمضي العلمانيون في ذلك خطوة أبعد؛ إذ يعتبرون مفهومهم هذا حول "العقيدة والدين" من "الثوابت المطلقة" التي لا يمكن المساس بها؛ مما يجعل العلمانية بحد ذاتها "عقيدة وضعية"، تبعًا للمفهوم الذي تنطلق منه هي في تعريفها للكلمة؛ أي تعريف العقيدة في "الشرائع السماوية"؛ إذ يتضمن هذا التعريف ذكر وجود "ثوابت" مُسلَّم بها، ولا تخضع للمناقشة العقلانية؛ فلا يمكن المساس بها"
(وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).افالحديث عن الإصلاح يبدأ بالانتماء إلى العقيدة، وتحديد موقفنا مِن حلال الله وحرامه، قال -تعالى-: