"درنة" الليبية.. جسدًا آبى الركوع أمام الإرهاب
جسدًا ملأه الحزن وحفر على وجنتيه، وأبدل بريق عينه انكسارًا وانهزامًا، وشيع ضحكاته لعالم الأموات، وملأ صرخاته عنان الأرض والسماء عندما اجتاحه الطوفان وعبث به رياح الغدر، وظل روحه صامدة تدعي الموت، لكنها ليست كذلك، فالجسد باقٍ يستعيد الأمجاد، إنها درنة، تلك المدينة الجبلية الواقعة على ساحل البحر المتوسط في شمال شرق ليبيا.
المدينة التي يصفها أهلها بـ"درة البحر المتوسط"، وغنى لجمالها الشعراء، تعرضت لسفك الأرواح وإراقة الدماء وهتك الأعراض، وشهدت سلًا حافلًا من انتهاكات حقوق الإنسان في عهد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، حيث زاد فيها قمع الحريات وتقنين الصحافة وسجن السياسيين، وكذلك الإعدامات الجماعية التي راح ضحيتها العديد من طلبة الجامعات وأصحاب الفكر السياسي.
كانت "درنة"، البالغ عدد سكانها 800 ألف، معروفة بمعارضتها لنظام القذافي منذ الثمانينات، وهي مهد الجهاديين المقربين من تنظيم القاعدة ولاتزال إلى الآن، تضم الكثير من الإسلاميين المؤيدين لبعض الأفكار المتطرفة، وظلت آبية صامدة في وجه أي معتدي، وتصدت لـ"داعش" بعد أن ساهمت في إسقاط نظام القذافي، وضيقت على أعضائه الخناق، حتى تمكنوا من دحرهم، بعد التعاون بين أطياف ليبيا المختلفة.
غاب عن "درنة" خلال تصديها لـ"داعش"، قوات الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، بالرغم من انتشار قواته على حدود المدينة وضواحيها، كانت أول إمارة لذلك التنظيم الإرهابي، الذي غير الكثير من المعتقدات والمناهج الدراسية وفضل بين الذكور والإناث في المدارس والجامعات، واغتصب عذرية الإناث تحت مسمى "جهاد النكاح"، وغيرها من الأعمال التي لا علاقة لها بالدين أو الإنسانية.
وتمضي الأحداث على درنة، وتظهر دعوات إلى التدخل الأجنبي والأمم المتحدة للتصدي للجرائم التي ترتكب ضد أهالي المدينة، لكن التنظيم الإرهابي يلقى هزيمته، بعدما اتفق مجلس شورى مجاهدي "درنة" مع كل من المجلس المحلي والمجلس الأعلى الاجتماعي على رعاية المؤسسات الخدمية والأمنية حتى تستقر الأوضاع، واتفقت جميع الأطراف على دعم الحكومة الليبية، شريطة أن تكون مرجعيتها التشريعية لدار الإفتاء الليبية، ورفض الوصايا الخارجية.
بانسحاب تنظيم داعش من درنة تحت وقع ضربات الجيش الوطني، يكون بذلك قد خسر رمز قوته في ليبيا وأول "إمارة" مزعومة له في البلاد، مما يعد تغيرا دراماتيكيا في الحرب على الإرهاب.
وتفتح سيطرة القوات الشرعية على درنة الطريق أمام تحرير مدينة سرت والتي استولى عليها التنظيم دون عناء، بعد انسحاب مريب للميليشيات المسلحة التابعة لتيار الإسلام السياسي منها، ويبرز التقدم الذي أحرزه الجيش الوطني بقيادة الفريق خليفة حفتر، أهمية الحفاظ على استقلال المؤسسة العسكرية، وعدم الزج بها في المحاصصات الحزبية الناجمة عن الصراع السياسي، وذلك من أجل دعم المهمة الأساسية لهذا الجيش في مكافحة الإرهاب واستعادة الدولة الليبية من الميليشيات الخارجة عن القانون.