ربيع جودة يكتب: قطار الموت
انتهي به السير الي حيث وهنت قدماه.. وأبت الحراك.. وأعلنت كل أعضاءه العصيان عليه.. وكلبه لا يتوقف عن النباح.. وهو يحاول منعه بكل الطرق أن يسير معه.. ويأبي الكلب الا ان يرافقه.. حتي ضربه ضربًا مبرحًا.. فابتعد الكلب هارباً وهو يعوي عواء من فقد أمه.. جلس الرجل علي حافة الطريق الزراعي بالقرب من أحد القري بالصعيد.. وعلي مقربة منه شريط للسكة الحديدية.. كان الليل قد انتهي زحفه.. ونال من أطراف القرية وحدودها.. وانتهت رحلة الفلاحين بخرافهم ودوابهم إلي حيث مخدعها.. وبدأت صيحات الضفادع ونقيقها يملأ الحقول.. ويلهو بالصمت.. كان الرجل خفيفاً.. لا يحمل من متاع الدنيا شيء إلا سلسلة غليطه.. بها قفل ثقيل..يحملها معه لغرض في نفسه.. أودع الرجل رأسه الي حيث ارتضت من فراش الأرض وحصاها.. وضم ركبتيه الي صدره وكأنما عاد الي رحم أمه.. ونام من فوره لشدة تعبه وضجره..
مضت ثلاثة ساعات لم يحرك فيها ساكناً.. ولا تؤثر فيه أصوات الليل وأحراشه ونسيمه القارص.. ولا حتي طيف أشباحه.. حتي استيقظ علي صوت صفير القطار يمر .. يزلزل الأرض بعجلاته القويه.. ويشق الهواء بسرعته الفائقة.. فانتفض من نومه. يهرول خلفه. وكأنه وجد ضالته. إلا أنه سرعان ما فقده.. ليجلس حاسراً علي شريط القطار.. وقد وصل بهرولته الي محطة كانت قريبه.. ففكر وقدّر.. واستقر اللي قراره الذي جاء من أجله.. فأحضر سلسلته.. وربط بها ساقيه في منتصف شريط القطار.. وأحكم الغلق.. وألقي بالمفتاح بعيداً.. ليضمن لنفسه عدم العدول عن قراره بالانتحار.. مكث طويلاً ينتظر حتفه.. الي أن ظهر من بعيد عامل التشغيلة.. يحمل كشافاً.. ويبدوا أنه من كثرة ما رأي من سكان الليل وأشباحه.. لم يهتم بمن يجلس علي شريط القطار. لعلمه أنه ليس من ثوب البشر.واكتفي بالذكر والاستعاذه . وما إن عاوده فضوله.. ورآه لا يزال يجلس.. اقترب منه وقال.. بسم الله من أنت؟؟ قال دعني وشأني.. قال هذا عملي أقوم به.. من أنت وما خطبك.. قال إن كان هذا عملك إذا أخبرني.. متي يأتي أول قطار.. قال العامل.. وهل هذا مكان الإنتظار.. قم يا رجل فقد أوشك القطار أن يأتي.. قال في حسرة.. يا ليته يأتي كي أستريح..
فأشفق عليه عامل التشغيلة.. واقترب منه. يريد مواساته ونصحه.. فإذا به مكبلاً بسلسلة من حديد.. ففزع العامل وقال.. من فعل بك هذا.. يا لهول ما أري أين مفتاح هذا القفل.. قال لا تجهد نفسك فقد ألقيته.. وارحل عني يا هذا.. كيف أرحل ستموت. ما دفعك علي فعل هذا بنفسك؟ قال.. كيف لا أفعل.. وأنا أكثر أهل الأرض بؤسا وشقاءا.. وأنا أكثر الناس حزناً وهماً.. وانا الهارب الضائع.. وانا التعيس المهان.. وأنا من يطرق أبواب الموت مع أول قطار يأتي..
قال العامل.. إذاً تقرر لنفسك أن تشقي في الدارين..
قال الرجل في ثورة.. ومالك بي هل تشعر بما أشعر.. هل قاسيت ما قاسيت.. أغلق فمك.. وأسدل ستائر نصحك واتركني.. ثم وهن صوته وتقطع.. قائلاً.. لم يبق لي في الحياة شيء.. صمت ساد بعد عِزوة.. ووجه ذاب بعد نضره.. وقلب مات بعد ألفة.. وجسد وهن بعد قوة.. أبحث عن جوف الأرض بعد أن ضاق بي براحها.. وبينما هو كذلك.. إذا بأجراس المحطة تدق.. معلنة قدوم القطار.. ففزع عامل التشغيلة.. والذي يسمعها كل يوم عشرات المرات.. إلا أنها اليوم إيذان بقدوم ملك الموت.. قال يا هذا.. لم يعد هناك وقت لأتلو عليك آيات العذاب.. وتراتيل النصح.. أين المفتاح.. وإذا بصفير القطار.. وضوءه من بعيد.. فهرول الرجل يميناً وشمالا يبحث عن المفتاح في الحشائش والقش.. ثم يهرول عائدا.. أين المفتاح.. والقطار يقترب.. يدك الأرض وتصرخ مأذنته.. هرول عامل التشغيلة.. وقد أحضر ما يطرق به علي السلسله والرجل صامت خارت قواه.. يستعرض شريط حياته.. فلا يري منها إلا قسوة الظروف وخيانة المشاعر وظلم القريب وفقدان الحبيب.. والعامل لا يزال يطرق وأصوات الاجراس من فوقه.. حتي يأست يداه. والمطرقة لا تخرج إلا شرزا يؤكد استحالة الأمر وانتهاءه.. واهتزت القضبان لشدة قرب قطار الموت. فإذ بالكلب يشق الأرض عدواً ليقف بين القطار وبين صاحبه وفي فمه.. مفتاح السلسلة لينقذ به الرجل في اللحظة الفارقة.. وهواء القطار يدفع بهم الي جانبي الطريق..
يبكي الرجل البائس ويحتضن الكلب الوفي.. الذي علمه أن الحياة ليست فقط ما تعيش لأجله. حتي وإن لم تجد فيها ما يسرك . ربما تكون حياتك حياة لغيرك.