منال لاشين تكتب: مصر بين المحاكم ومجزرة الكنيسة
■ السيسى طلب من الحكومة تخفيف العقوبات فى قانون التظاهر مواجهة الإرهاب لا تتطلب تكميم الأصوات المعارضة أو قتل المجتمع المدنى
■ دعم مصر يفشل فى تعديل الدستور والاكتفاء بتعديل قوانين للإسراع بالفصل فى قضايا الإرهاب
منذ الأسبوع الماضى والمشهد أمام عينى يزداد رعبا واختناقا. لم تكن كارثة الكنيسة البطرسية قد وقعت بعد. لم تكن دماء الشهداء خلال صلاة الأحد قد غطت المشهد. ومع ذلك كان المشهد خانقا ومخيفا. ولم تبعدنى المجزرة، على خستها ودمويتها، عن المشهد الخانق، لأننا لا يمكن أن نحتمل المشهدين معا.
المشهد الذى أقصده يمكن أن نضع له عنوانا «مصر فى المحكمة». وأضيف إليه الجديد فى مشهد «الإرهاب والدم». والسؤال الذى يجب أن يسأله العاقلون لأنفسهم: هل يمكن أن تعيش مصر فى المحاكم وبين الأشلاء والدماء؟.. هذا سؤال سابق على كارثة الكنيسة، وإن كانت الكنيسة تجعل السؤال أكثر حضورًا وإلحاحًا.
فالإرهاب الذى فرض علينا بقوى شر خارجية وداخلية.. الإرهاب الذى انتقل إلى مقر بيوتنا ودور العبادة.. الإرهاب الذى نخوض معه معركة طويلة، هذه المعركة الممزوجة بدماء المصريين كل المصريين دفعت الكثيرين للمطالبة بالقصاص العادل والسريع وتغليظ العقوبات والإعدام. وسط غضب مشروع ونبيل يختلط فيه الحابل بالنابل، ويعلو صوت التشدد للرد على الإرهابيين. وتبدو هذه اللحظات والمطالبات مشروعة من أهل الشهداء وأصدقائهم، وحتى من المواطن العادى فور حوادث الإرهاب. يحدث هذا فى مصر وفى كل دولة اكتوت بنار الإرهاب.
وفى مصر وبعد حادثة البطرسية وصلت هذه الدعوات إلى أبعد مدى.. وهو تعديل الدستور لمحاكمة الإرهابيين الذين يستهدفون دور العبادة إلى المحاكم العسكرية. إخراس كل الأصوات بدعوى أن الاختلاف يؤدى للإرهاب، وكل معارض هو مشروع إرهابى. تفجير المجتمع المدنى وكل منظمات المجتمع المدنى ردًا على تفجير الكنيسة.. تقليص الإجراءات القانونية الخاصة بحقوق التقاضى والتى تعد تاجا على رأس مصر وضمانة لكل مواطن، تحميل القضاء مسئولية تأخر الإعدامات للإرهابيين. والضغط على القضاء لسرعة إصدار أحكام رادعة وعنيفة.
باختصار ما يجرى الآن من دعوات تحت تأثير كارثة الكنيسة ودماء المصريين واشلائهم الطاهرة يؤدى إلى خنق مصر وحصارها. وبعد أن كانت مصر محصورة فى المحكمة الأسبوع الماضى. فالمطلوب بعد الحادثة أن نغلق كل حياتنا ونعصف بقيمنا بحجة أو تحت تصور خاطئ بأننا بذلك سنقضى على الإرهاب. وعلى الرغم من أن مصر تعانى من نقص حاد فى السياسة، فإن الخلاف السياسى الوحيد الساخن الآن هل تحتاج مواجهة الإرهاب إلى مزيد من الحسم أم مزيد من الحرية. وما نقطة التوازن بين مواجهة الإرهاب وبين الحفاظ على هوية مصرية تحافظ على الإبداع والحريات رغم أنف الإرهاب، أو بالاحرى كإحدى الوسائل لمواجهة الإرهاب؟..
1- انفراج مؤقت
مشهد الأسبوع الماضى أقلق كثيرا من الحكماء. نقيب الصحفيين واثنين من أعضاء مجلس النقابة فى المحكمة. ووكيل نقابة الأطباء فى النيابة. والقبض على الحقوقية عزة سليمان من داخل منزلها للتحقيق معها أمام قاضى التحقيق. وذلك بدلا من استدعائها للتحقيق. والضجة الدولية التى تبعت القبض على عزة. وأخيرا وليس آخرًا تقديم بلاغ فى كل من الكاتبين يوسف القعيد ومفيد فوزى بتهمة ازدراء الأديان. «القعيد» و«فوزى» تحت سيف الحبس واللحاق بإسلام بحيرى. وفوق البيعة قانون مقيد للمجتمع المدنى والجمعيات الأهلية. قانون يرفضه النسبة العظمى من الجمعيات. وهو الأمر الذى دفع رئيس الجمهورية أن يتريث فى التوقيع أو التصديق على قانون الجمعيات. وذلك بعد أن وصلته شكاوى من جمعيات تعمل فى مجال التعليم والصحة ومنظمات شريكة للحكومة فى التنمية. وكانت الشكاوى تؤكد أن القانون الجديد يعيق الجمعيات عن تقديم الخدمات الصحة والتعليم والبيئة للمجتمع.
وعلى الرغم من كل ذلك كانت هناك انفراجة لأن رئيس الجمهورية طلب من الحكومة تخفيف العقوبات فى قضايا التظاهر. والحفاظ على الشباب المصرى السلمى. من ضمن الانفراجة أن الرئيس السيسى طلب من لجنة العفو توسيع دائرة العفو فى القائمة الثانية لأكبر عدد من الشباب فى السجون. وقال إنه يتمنى أن تنهى هذا الملف وألا يبقى شاب لم يلجأ للعنف أو الدم فى السجون.
وهذه دلالات مهمة على أن ثمة تغييرا ولو طفيفا يحدث فى مصر. وأن الأمور فى طريقها للتحسن فى أهم ملفين يثيران الغضب فى مصر «قانون التظاهر» و«الشباب المحبوس فى السجون».
دلالة ربما كان يتبعها تقليص الفجوة بين الحكومة والنقابات المهنية. والنقابات لا علاقة لها بالإرهاب والإرهابيين. وتقليل حدة العداء بين الحكومة والمجتمع المدنى.
2- انتكاسة دائمة
وسط أجواء هذه الانفراجة وقعت كارثة أو مجزرة الكنيسة البطرسية. ووجد دعاة التشدد الفرصة سانحة للانقضاض على كل خطوة فى طريق الحريات. فجأة أصبح قانون التظاهر مسئولا عن القتل ويحمى الإرهابيين، والجمعيات الأهلية تحمى المفجرين لمجرد أن محامية من هذه الجمعيات كانت تدافع عن الإرهابى المتهم بتفجير الكنيسة.
ولكن الأخطر من ذلك هو الضغط المهول على القضاء وقيمه وتقاليده الراسخة. وهو أمر يرفضه قطاع لا يمكن تجاهله من القضاء. فأكبر نجاح للإرهاب هو أن نتنازل عن ضمانات الدفاع لأنها لا تخص الإرهابيين، بل تخص كل المصريين.. تخصنى أنا وأنت. وعندما يقرر القانون أن القاضى يجب أن يستمع لكل الشهود فهذه ليست مضيعة للوقت كما يروج البعض، ولكنها ضمانة لى ولك. ولذلك أرجو أن نتخلص من تأثير الغضب والحزن المشروعين قبل أن نناقش النظام القضائى فى مصر. أو يسعى البعض لتشويهه بحجة التأخر فى الحكم. أو عدم إعدام قيادات الإخوان الإرهابيين. بالطبع النظام القضائى يحتاج إلى منظومة جديدة للعدالة، ولكن بحث هذه المنظومة يجب أن يتم فى مناخ هادئ وليس محملا بدعوات الانتقام وفى مؤتمر للعدالة. ويجب أن يتم فى إطار حماية حقوق المتقاضين حقوقى وحقوقك. وعدم المساس بضمانات الدفاع. وأن تترك هذه المهمة إلى أهل القضاء والمحامين (القضاء الواقف) ويتولى مجلس النواب ترجمة توصيات هذا المؤتمر إلى قوانين. فقد يكون ابنى أو ابنك - لا سمح الله - أحد المتهمين بالخطأ فى قضية إرهابية، وهذا المتهم يجب أن يحصل على حقه دائما لإثبات أنه ليس إرهابيا. الضمانات ليست للإرهابيين بل للأبرياء لى ولك.
3- مواجهة شاملة
وسط هذا الجو المحموم المشحون فشل ائتلاف «دعم مصر» فى تمرير تعديل الدستور. وهو باب خطير لا يجب فتحه الآن، خاصة مع وجود مطالبات بتعديل مواد كثيرة وحساسة فى الدستور، والحل الآن هو الاكتفاء بتعديلات جزئية على القوانين لتسريع وتيرة المحاكمات. وهى تعديلات لا يجب أن تمس ضمانات التقاضى. بالمثل لا يجب أن تدفعنا بشاعة الجريمة إلى العصف بما تبقى فى مصر من حريات، فمواجهة الإرهاب تتطلب التفرقة بين المعارض والإرهابى، وليس إغلاق كل الأبواب أمام الصوت الآخر. ومواجهة الإرهاب لا تتطلب إخراس المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية ووقف عملها الذى يستفيد منه المجتمع. والمجتمع الحر هو الذى ينجح فى مواجهة الإرهاب. المجتمع لا يحتاج إلى مزيد من الانقسامات بل يحتاج إلى التوحد، والتركيز فى القضايا المصيرية والتحديات الكبرى. أما إدارة كل خلافاتنا وقضايانا من المحاكم ومحاكمة الرموز بدلا من إدارة حوار معها. فلا يساعد أبدا فى مكافحة الإرهاب. لا تتخذوا من الإرهاب وبشاعة الحادث شماعة أو ذريعة لإسكات كل الأصوات. وجرجرتها للمحاكم. ما نحتاجه الآن هو تنظيف مصر من الإرهاب وشيوخه ومنابعه، وليس إخراس كل الأصوات فى مصر.