شهادات المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم
نورد في هذا المقال شهادات من عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، فرأوه وسمعوا منه، وخبروا حياته قبل البعثة وبعدها، وهم يشهدون أنه نبي، ولكن المصالح العاجلة كانت أحب إلى قلوبهم، وأقرب من نفوسهم من الحق الأصيل، والدليل الواضح البين، وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
أبو جهل عمرو بن هشام
سأل المسور بن مخرمة خاله أبا جهل عن حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "يا خال، هل كنتم تتهمون محمدًا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فقال: يابن أختي، والله! لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبًا قط.
قال: يا خال، فما لكم لا تتبعونه؟
قال: يابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب كنا كفرسي رهان ، قالوا: منا نبي. فمتى ندرك مثل هذه؟!
وقال: الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا.
فقال أبو جهل: ويحك! والله إنَّ محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟".
الوليد بن المغيرة
عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إنَّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً. قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له.
قال: وماذا أقول؟ فوالله! ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله! إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره من غيره. فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11].
طلحة النمري من أتباع مسيلمة الكذاب
عن عمير بن طلحة النمري، عن أبيه أنه جاء اليمامة، فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه، رسول الله. فقال: لا، حتى أراه. فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمان. قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة. فقال: أشهد أنك كذاب، وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر.
بنو شيبان
في أثناء عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل في موسم الحج بحثًا عن قبيلة تحميه، كان هذا المشهد الذي نلتقطه من الحوار مع قبيلة بني شيبان:
دخل أبو بكر على مجلس القوم فقال: ممن القوم؟ قالوا: من بنى شيبان بن ثعلبة. فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي! ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم. وفى رواية: ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس.
وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر.
فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال له: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة.
فقال له: فكيف المنعة فيكم؟ فقال: علينا الجهد ولكل قوم جد.
فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله؛ يديلنا مرة ويديل علينا مرة، لعلك أخو قريش؟ قال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا.
فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك.
ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلام تدعو يا أخا قريش؟
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وأن تئووني وتنصروني، حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد".
قال له: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فتلا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الأنعام:151-153].
فقال له مفروق: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، لم نتفكر في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه -زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدًا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك، واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة، في تركنا ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا، وإنا إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة، والآخر السماوة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما هذان الصريان؟" فقال له: أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثًا، ولا نئوي محدثًا، ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان مما يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟" فقال له النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45-46].
بنو عامر بن صعصعة
أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم، يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: "الأمر لله يضعه حيث يشاء".
قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك.
فأبوا عليه، فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن، حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.
قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده! ما تقولها إسماعيلي قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم.
مشركو قريش
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي". لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟" قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا. فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [سورة المسد].
جماعة من المشركين
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال له المشركون: إنا نرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة. قال: أجل، إنه ينهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه أو يستقبل القبلة، وينهانا عن الروث والعظام، وقال: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار".
كان هذا طرفا من أقوال المشركين، الذين لم يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم .. فهي حجة عليهم، ودليل لمن بعدهم؛ يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لم يكن موضع تهمة، ولا له سابقة كذب، وبهذا شهدوا، وإن لم يتبعوه.