أثر الهجرة النبوية في حياة المسلم

إسلاميات

الهجرة النبوية -
الهجرة النبوية - ارشيف


الهجرة النبوية حدث مهم في تاريخ الدعوة، حدث تجاوز حدود رحلة وانتقال عادي يقوم به سائر البشر إما طلباً للراحة أو الاستجمام أو طلباً للرزق، فالهجرة النبوية تجاوزت كل هذه الأغراض لترتقي بالإنسان إلى عالم القيم؛ فتكون نقلة نوعية متفردة تتجاوز حدود المكان والزمان، ولتكون فيصلاً بين مرحلتين أساسيتين في حياة الدعوة من حياة عاشها أفضل الخلق في مكة المكرمة، وكانت لها سماتها وخصوصيتها، إلى الحياة الجديدة في المدينة المنورة التي تختلف من حيث أهدافها وغايتها، ولتكون هذه الرحلة فاصلة بين حياة الاستضعاف والقلة في العدة والعدد، إلى حياة قيادة المؤسسات وامتلاك الخطط والإستراتيجيات، ومن حياة ميزها التخفي والاختباء في الزوايا والمحاصرة في الشعاب والتضييق، إلى حياة الجهر بالفكرة، ومن حياة الترقب إلى حياة الحركة والانطلاق.

إن الهجرة النبوية علمتنا أنه لا حياة بلا تخطيط على الرغم من أن هذه الرحلة كانت بأمر الله ورعايته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استنفد الجهد، وأحاط الرحلة بكل أسباب النجاح؛ فأحسن توظيف كل متاح وطاقة تسهم في إنجاح هذه الهجرة، فاختار الرفيق المناسب الذي يقاسمه مشاق الطريق، ويهوّن عليه المتاعب المنتظرة، فكان نعم الصديق الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان رضي الله عنه نعم المرافق، كما وفّر عليه السلام كل لوازم الرحلة؛ فاختار الراحلة والدليل، وأمن الخروج في خفية.

وكان علي رضي الله عنه زينة الفتيان، نعم الفدائي، ولم يستثنِ الرسول المرأة بالمشاركة في إنجاح مشروع الهجرة؛  فكان للأختين الطاهرتين أروع التضحية؛ عائشة، وأسماء رضي الله عنهما، ابنتي أبي بكر الصديق، فبذلتا الجهد في إعداد الراحلة وتقديم الزاد.

والمدهش في هذه الرحلة هو دور الأطفال؛ فقد كان لهم  نصيب في تقصي الأخبار، فنالوا بذلك شرف المشاركة في الهجرة.

وكان للصحابي مصعب بن عمير أبلغ الأثر لإنجاح هذه المهمة، حيث كان سفير الرسول إلى المدينة، وهذا يبين أن القائد الناجح لا يهمل الأسباب، فكانت الهجرة من حيث التخطيط مدرسة نموذجية يقتدي بها الرواد في صناعة التغيير.

إن حياة الهجرة تعلمنا أنه لا مكان للعصبية، فقد تجاوز المسلم الشعور بالغربة، وامتزجت تلك العصبيات في ظل الإيمان، وفي ظل الأخوة في الله المفقودة في مجتمعاتنا اليوم؛ بسبب نمو شعور العصبيات بين أبناء الأمة الواحدة، فقد كانت الهجرة العاصمة من مهالك هذه العصبية؛ حيث أقام عليه الصلاة والسلام مؤاخاة عامة بين المسلمين، وقد أثمرت هذه الأخوة مواقف مؤثرة خالدة أذابت كل الفوارق المجتمعية؛ فجمعت بين الفقير والغني، والقوي والضعيف، والشيوخ والشباب، فكانت ثورة حقيقية على التقاليد الموروثة، مع أن عزة الصحابة المهاجرين كانت راقية أظهرت كل معاني العفة والطهارة والنبل؛ فحق في قدرهم هذه الشواهد الرائعة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9}‏) (الحشر).

وأثنى عليهم النبي بقوله: "لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً، لسلكت في وادي الأنصار" (رواه البخاري)، وبيّن حبه لهم بقوله: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق؛ فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" (رواه البخاري)، ودعا لأولادهم وذرياتهم بالصلاح فقال: "اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأزواج الأنصار، ولذراري الأنصار" (رواه أحمد)، وآثر الجلوس بينهم طيلة حياته فقال: "لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار" (رواه البخاري).

ليتنا تعلمنا من الهجرة فاستقينا منها العبر والدروس، فتكون لنا محطة انطلاق، ومرحلة حركة وبناء.