خطورة تداول الأحاديث غير الصحيحة
يكثر تداول بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة لدى العامة والخاصة إما عن طريق الرسائل الهاتفية أو الالكترونية، وفي المنتديات ومواقع الدرشدشة ومجالس الناس، وهذا من الخطورة بمكان يجب التنبيه إليه والتنبه له، لكنه يزداد خطورة ويشتد وطئا بل ويعظم جرما حين تصدر هذه الأحاديث من على منابر الجمعة وكراسي الوعظ والارشاد، ممن وثقت بهم الوزارة وصدرتهم ليعظوا العامة ويرشدوهم ويقدمون لهم النصح، لكن الغالب على هؤلاء عدم التمحيص والتمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع، فهل هو جهل بإثم وجرم راوية الضعيف والموضوع دون علم ودون أن يكون القصد هو البيان والتوضيح؟ أوعدم إداراك خطر بث غير الصحيح بين عامة الناس؟
مع هذا الوضع تصبح المواعظ وخطب الجمعة عبئا ثقيلا على النفوس وهمًّا تحمله القلوب من الجمعة إلى الجمعة، وكلما صعد خطيب المنبر إلا ونطلب السلامة. حيث قلما تمر جمعة أو موعظة دون أن يروى فيها حديث ضعيف أو موضوع؛ وفي بعض المرات لا تكاد تسمع من بينها حديثا صحيحا فإلى الله المشتكى.
إن النبي صلى الله عليه وسلم حذر في غير ما حديث من التحديث عنه دون تثبت ويقين بالمروي عنه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم" مقدمة مسلم، واعتبر ذلك جرما عاقبته النار.
عن أبي قتادة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم وكثرة الحديث عني فمن قال علي فليقل حقا أو صدقا، ومن تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار" صحيح الجامع.
وقال عليه الصلاة والسلام: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج؛ ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" البخاري.
فواضح من الرخصة في التحديث عن بني إسرائيل دون ما علم كذبه، والتشديد في الرواية عنه صلى الله عليه وسلم، أن الأمر ليس سهلا ولا هينا وما ينبغي لأي ذريعة أو سبب، فحرمة المصطفى صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيا يبلغ عن الله لا ينبغي أن ينسب له قول أو فعل أو تقرير لم يثبت عنه بالسند الصحيح الغالب على الظن صحته، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من مغبة رواية غير الثابت عنه وأن الكذب عليه من أكبر الكبائر كما في حديث المغيرة بن شعبة مرفوعا: "إن كذبا علي ليس ككذب علي أحد" رواه البخاري.
إن رواية الضعيف والموضوع في الخطب والمواعظ وغيرها من المناسبات يساهم في نشر الأباطيل والمتناقضات، مما يؤدي إلى الطعن في السنة، ومن ثم الطعن في الدين ووسمه بدين التناقض والتعارض، ويؤدي إلى فساد في العقيدة والعبادة والتكليف بأعمال والنهي عن أخرى بما لم يثبت شرعا؛ فيعبد الله بغير ما شرع ويعتقد فيه ما لا يجوز، كما يسهم في طمس الأحاديث الصحيحة؛ وتهوين التثبت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وجعل المرء يقبل كل ما صُدر بقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغيب عن الأذهان أن الحديث فيه الصحيح الذي لا ينبغي أن يلتفت إلا إليه ولا يحتج إلا به، وفيه الضعيف غير المقبول، والموضوع الذي لا يحل روايته إلا على وجه البيان كما قال أهل العلم، وكما فتح هذا المجال للزنادقة وأعداء الدين زمن الرواية لوضع الحديث وترويجه، لا يمنع ذلك في هذا الزمان الذي لا تقل عداوة الإسلام فيه عما مضى من ترويج أباطيل لضرب الدين في الصميم.
قد يقول قائل إنما أنا أذكر الحديث فإن كان كذبا فيتحمل وزره الذي وضعه أول مرة، ولكن الحق أن الواضع والراوي شركاء في الإثم بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحدث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" رواه مسلم، وقد قُرأت (يَرى) بفتح الياء فيكون المحدث عالما بالوضع صادرا منه، وقرأت بالضم (يُرى) فيكون المحدث يروي الحديث المكذوب دون التثبت من صحته.
لا يجوز للخطباء والوعاظ أن يكونوا سببا في انتشار الأحاديث الضعيفة والباطلة وفي الأحاديث الصحيحة غنية، وليتقوا الله في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أنفسهم وفيمن يستمعون إليهم.
فعن حفص بن عاصم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سـمع "رواه مسلم في المقدمة، وكذلك لا يحل التحديث بكل ما قرأ أو وصله عبر رسالة هاتفية أو الكترونية أو وجده في المنتديات، وفي ذلك تعظيم لجناب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا لم يكن مقبولا بين العقلاء نسبة كلام غير متيقن منه لشخص ما فذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى؛ كيف لا وكلامه متعلق بالاعتقاد والتشريع والعمل.
إن التهيب من الرواية خلق ودين دافعه الإيمان بضرورة التثبت وخطورة التهور في نسبة الأحاديث للنبي عليه الصلاة والسلام، لذا لا غرابة فيما ورد عن الصحابة والتابعين من تهيبهم من الرواية.
فعن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا؛ فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف"، رواه مسلم.
وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد عليّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار"، وقد كان ينهي حديثا بقوله أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال المناوي في فيض القدير: "كان أكابر الصحب -أي الصحابة- يتحرون عدم التحديث، قال علي رضي الله عنه: لأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أحدث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بما لم أسمعه"، وقد بوب الامام مسلم في مقدمته بابا فيه "باب النهي عن الرواية بكل ما سمع" وآخر "باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها ".
من هنا يتضح كم هو كبير احتياط الأولين وكبير تهور الآخرين في رواية الحديث، مما يعني أننا أمام ظاهرة خطيرة ينبغي احتواؤها ومعالجتها صونا للدين وحماية لسنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.