فؤاد معوض يكتب: ليلى مراد

مقالات الرأي



اتصلت بها لتحديد موعد فردت علىَّ وكأنها تغنى.. ميعادنا بكرة الساعة خمسة.. الساعة خمسة

المناسبة ذكرى مرور 21 عامًا على رحيلها (24 نوفمبر 1995) بينما لقائى الأول معها كان فى عام 1975 وقتها كنت رئيسًا للقسم الفنى بمجلة الإذاعة والتليفزيون فاتصلت بها تليفونيًا لتحديد موعد..

كانت الكلمة الأخيرة بعد الترحيب بشخصى التى قالتها ليلى مراد قبل أن تضع سماعة التليفون عبارة عن مقطع من أغنية تغنت بها من قبل.. ميعادنا بكرة الساعة خمسة!..الساعة خمسة ..

تخيلت على الفور أننى طرف من دويتو غنائى يردد وراءها.. حاكون معاكى من قبل خمسة.. دى الدنيا بكرة من قبل خمسة.. الساعة فيها حتساوى خمسة!

فى الموعد تمامًا كنت عندها.. مستحيل أن أتأخر على موعد لـ«ليلى مراد» ولو لدقيقة واحدة.. لمطربة غيرها «ليلى جمال» مثلاً لايهم! قبل أن تمد يدها بالسلام ألقت بمجلة كانت تقرأها «الكواكب» بالتحديد وبقايا ابتسامة لا تزال مرتسمة بشفتيها!.. الدافع الفضولى جعلنى أمسك بالمجلة وأقرأ ما كان يضحكها منشورًا تحت باب اسمه «اضحك مع النجوم» قرأته بصوت عال.. عندما كانت الممثلة الأمريكية «جين راسل» تتحلى فى إحدى حفلات رأس السنة بـ«دبوس» على هيئة طائرة شبكته فى صدر فستانها العارى وأثناء الحفل لاحظت أن زميلا لها ينظر إليه بإعجاب شديد فسألته: هل تعجبك الطائرة؟! فرد عليها قائلاً: يعجبنى أكثر المطار يا سيدتى!.. هاها..هاها.. شاركنى فى الضحك الملحن بليغ حمدى والشاعر محمد حمزة كانت معهم قبل مجيئى يعرضان عليها العودة من جديد للغناء بأغنية من تلحين الأول وتأليف الثانى ولكنها اعتذرت وهى تودعهما حتى باب الأسانسير بكلمة كانت أشبه بكلمات الرثاء.. الزمن لم يعد هو الزمن يا بلبل «دلع بليغ»!

زمن ليلى مراد بدايته كما راحت تحكى لى - يعود إلى أيام أن قرر والدها زكى أفندى مراد القيام برحلة فنية إلى قرى الوجه البحرى ليغنى هناك على مسارحها أشهر أدواره.. «أين حبيبى قولوا أين راح.. آه من بُعد الحبيب يا ألف آه.. ليت من مات واستراح.. موتى أهون ولا بعد الحبيب» الله.. الله.. يا زكى أفندى الله.. من تانى عشان خاطرى الله يسعدك.. و.. «أمس واليوم عينى لا تراه.. أين ولى وغاب روحى فداه.. آه والله مالى حياة.. ما حياتى من بعده تطيب».. أثناء الغناء كانت الناس تخلع عليه من فرط الطرب خواتمها وترميه بالجنيهات الذهبية والغلابة الذين لم تكن لديهم خواتم أو جنيهات فـ«الطرابيش» و«عمامة» الرأس كانت البديل!

قبل انتهاء حفل كان يحييه فى كفر الزيات وقبل أن يغادره إلى اللوكاندة التى يقيم بها كان قد تذكر أنه قبل السفر قد استبقى صديقًا له من الموسيقيين ليكون بجوار زوجته خاصة وهى على وشك الولادة.. ففوجئ بالناس تتمسك به طالبة منه مواصلة الغناء «الليل وآخره معاك يا كروان» فاستجاب مواصلاً «يا ناس لى أحباب فارقوني.. وشمتوا فيا العذول.. يا عينى لم يرحموا دمعى ولا أنينى.. ولا ييجى لى منهم يطمنى رسول» حتى توقف عن الغناء ساعة أن جاءه أحد رجال القرية مهرولاً من دار العمدة يزف له بالخبر الذى جاءهم تليفونيًا من القاهرة.. مبروك يا زكى أفندى.. مراتك خلفت بنت اسمها «ليلى»!

■ ■ ■

كبرت البنت ودخلت المدرسة وبسبب حلاوة صوتها أصبحت واحدة ضمن فرقة التراتيل الدينية0 بمدرسة للراهبات تقوم بترتيل الأدعية والأناشيد فى الحصص المعدة لذلك، أما فى فترة الاستراحة «الفسحة ما بين الحصص فقد كانت تجتمع حولها فى فناء المدرسة زميلاتها ابتسام.. وناهد وأميرة.. وماجدة.. وفاء.. وعزة.. لبنى.. ونادية.. و.. ياللا يا ليلى غنى لنا فتغنى لهن بصوتها كل أغنيات عبدالوهاب القديمة.. كتير يا قلبى الذل عليك.. وآه يا ذكرى الغرام.. ليلة الوداع طال السهر.. والبنات زميلاتها لا يكتفين بما قدمته لهن من غناء فى فترة الاستراحة بل يطلبن أيضًا منها الغناء فى الشارع عندما كن يقطعن الطريق معها - بعد انتهاء اليوم الدراسى - حتى منزلها سيرا على الأقدام أو سيراً على «الأنغام» لا فرق!

■ ■ ■

فى المنزل كانت «ليلى» لا تكتفى بالغناء وحده.. كثيرًا ما كانت تتسلل إلى غرفة الاستماع تضع إبرة الجرامفون فوق الأسطوانة التى اختارتها تستمع إلى الشيخ زكريا أحمد «كانت معجبة به أشد الإعجاب خاصة فى دور ما أحلى المدُام».. وترى للم.. ترللم.. برى بم.. بم.. ما أحلى المدام وقت القمر.. فى الروض وأنا ويا الحبيب.. حقه إذا سمح القدر.. بالوصف ده ويكون قريب.. لا كيد بكيد.. من لام وأزيد.. فى غرام وهيام.. ما اقبلش ملام»!.. إلى أن فوجئت بوالدها يدخل عليها الحجرة مشغول الفكر والخاطر ليقول بأن هناك ضيوفًا على جانب كبير من الأهمية جاءوا للاستماع إليها ونصحها والدها أن تحفظ بعض الأدوار لغنائها أمامهم!

فى المساء جاء الضيوف وعرفت «ليلى» من بينهم محمد عبد الوهاب فقد كانت دائمًا تشاهد صوره التى تنشرها «الصباح» و«العروسة» و«المسامرات» المجلات الفنية فى ذلك الحين ولم تكن أبدًا قد التقت به شخصيًا من قبل!

■ ■ ■

قدمها والدها إليهم بعد أن تناولوا جميعًا طعام العشاء الخفيف.. الخفيف كما قالت ليلى مراد - وجبة عبارة عن «القلب المحشو» ضانى أو كندوز.. يغسل القلب جيدًا وينزع منه العروق والصمامات الموجودة بداخله ويصير القلب أشبه بالكيس الفارع ثم يغسل مرة ثانية من بعدها يتم حشوه باللحم المفروم مع قطع صغيرة من الطماطم والبصل.. يوضع القلب فى السمن بعد غمسه فى البقسماط فوق نار هادئة حتى يحمر لونه ثم يضاف إليه قليل من الماء كلما احتاج الأمر حتى ينضج وعند تقديمه للضيوف وضمنهم محمد عبد الوهاب قامت «ليلى» بتقطيع القلب المحشو إلى حلقات ومعه البطاطس البوريه وأحيانًا الشعرية بالمكسرات «لوز وجوز وزبيب وعين جمل»!

بعد أن تناول الجميع العشاء قال لها محمد عبد الوهاب أنا «ثمعت» إن صوتك حلو و«أحثاثك» جميل.. يا ريت «تثمعينا» يا ليلى!

■ ■ ■

اتجهت ليلى.. -التى مازلت توصل الحكى- نحو اثنين من العازفين كانا قد أحضرهما والدها وغنت أغنية عبد الوهاب الشهيرة «ياما بنيت قصر الأمانى» لحنًا من ألحان عبد الوهاب التى كثيرًا ما كان يتباهى به وسط أقرانه!.. بعد أن انتهت «ليلى» من الغناء صاح عبد الوهاب قائلاً: دا مش صوت مطربة دا «بلبل» بيغرد! وقال الدكتور بطرس بيضا صاحب شركة بيضافون: ياريت نكتب العقد فورًا.. عقد تسجيل ثلاث أسطوانات وإقامة حفل عام على مسرح رمسيس «مسرح الريحانى حاليًا» ومن طريف ما يذكر عن هذا الحفل - والكلام مازال على لسان ليلى مراد - أنهم ألبسونى يومها حذاء له كعب عال وجوربا طويلاً له رباط من «الأستك» فقد كنت لا أتجاوز الرابعة عشرة عسى أن يساعد ذلك على مضاعفة عمرى وحتى لا يقول الناس إنهم دفعوا نقودهم للاستماع إلى طفلة صغيرة!

لاقت الوصلة الأولى من الغناء الاستحسان أما فى الوصلة الثانية -ليلى مازالت تواصل الحكى- فقد حدث فجأة أن انقطع رباط الجورب فرفعت طرف فستانى إلى أعلى لأصلح الرباط وأثناء ذلك ضج الحاضرون بالضحك الذى لم أعرف سببه إلا بعد انتهاء الحفل فعند رفع طرف الفستان كان قد ظهر ما كنت أرتديه من ملابس داخلية تحت الفستان!

عام 1938 عند افتتاح محطة الإذاعة أصبحت ليلى مراد فى شهرة ميدان العتبة الخضراء.. المجلات والجرائد تنشر أخبارها على الدوام.. شركة أسطوانات جديدة تطلب التعاقد معها على تسجيل عشر أسطوانات دفعة واحدة! بهيجة حافظ المنتجة السينمائية تطلب منها التوقيع على بطولة فيلم غنائى! توجو مزراحى شرحه! الفلوس تأتى إليها -كما كانت تقول ستى عديلة - فى شوال من أشولة البطاطس أو البصل!.. ولكن الفلوس - كما قالت لى ليلى مراد ساعة اللقاء بها -كانت بالنسبة لها لاتهم وإنما لوالدها - أى الفلوس- كانت هى كل شيء! الفن الراقى الذى تقدمه للناس والإعجاب به هو ما يسعدها لذلك تجدها ترفض الكثير من الأعمال التى يعرضونها عليها.. لابد وأن تنتقى وأن تلتقط ثم توافق «ذكرتنى بجملة كان قد قالها شارلى شابلن.. و.. التقط أى موضوع يثير انتباهك ثم طوره وعالج تفاصيله فإذا وصلت به إلى مرحلة تعجز عن التقدم بعدها أطرحه جانبًا والتقط موضوعًا آخر فغربلة الأفكار المتراكمة والتخلص من بعضها هو العملية التى تقودك إلى العثور على الأفضل! نجح لها فيلم «يحيا الحب» وهو الأمر الذى جعل والدها زكى «أفندى» مراد يرفع أجر ابنته من 350 جنيهًا إلى 700 ارتفعت فيما بعد إلى 800 جنيه دفعها المنتج توجو مزراحى نظير بطولة فيلم «ليلة ممطرة» فى الوقت الذى كانت تتقاضى فيه أكبر بطلة سينمائية مبلغًا لا يزيد على المائة وخمسين جنيهًا.. كان نجاحها المدوى فى هذا الفيلم أكبر مشجع للمنتج المذكور للتعاقد معها على بطولة عدة أفلام تحمل كلها اسم ليلى وهى «ليلى بنت الريف» و«ليلى بنت مدارس» و«ليلى فى الظلام» حتى وصل أجرها 12 ألف جنيه فى «شاطئ الغرام» و«ليلى بنت الأكابر» و«غزل البنات» وكانت الناس قد أصبحت تحفظ أغانيها كما إرشادات وزارة الصحة المطبوعة فوق الجلادة الأخيرة من كراريس التلاميذ وكما كان التلاميذ يرددون دائمًا «اغسل يديك قبل الأكل وبعده» و«من جد وجد» كان الناس يرددون أغانيها «يا ما أرق النسيم.. يا قلبى مالك كده حيران.. بتبص لى كده ليه.. أنا قلبى دليلى.. كلمنى يا قمر.. رايداك والنبى رايداك.. يا ريتنى أنسى الحب ياريت.. أنت مين أنت أنت فين قولى.. أبجد هوز دوس على الدنيا.. أنا أنسى روحى ومش ممكن أنسى ميعادنا بكره.. اضحك كركر.. نعيمًا يا حبيبى.. با احب اتنين سوا الميه والهوي.. وحتى بلغت مجموعة أغانيها إلى ما يقرب من حمولة عربة لورى بـ«مقطورة»!

■ ■ ■

من بعدها اختفيت بعيدًا.. ابتعدت عن الغناء والتمثيل كان آخر فيلم هو «الحياة الحب» من بعدها اعتزلت أولًا بسبب أن الزمن لم يعد هو الزمن وثانيًا بسبب التفرغ لتربية الأولاد.. ما شاء الله «أشرف» أصبح عمره الآن 24 عامًا وزكى 23 عامًا الاثنان أحبا الموسيقى وتعلمًا العزف دون مساعدة أحد!.. أحيانًا - والكلام على لسان ليلى مراد - أذهب إلى السينما للفرجة على أفلام هذه الأيام ومعظمها رمزى غامض لا أفهمه «ذكرتنى ليلى مراد بكلمة قالها الناقد الفنى لجريدة الصنداى تايمز.. و.. لو اخترنا واحدًا من أحسن النقاد وأبعدناه عن السينما سنوات ثم أطلقنا سراحه لوجد العناء كل العناء فى أن يفهم عددًا كبيرًا من الأفلام الجديدة!.. سأعود للسينما من جديد بقصة جديدة من إنتاجى «كان وعدًا صرحت به ولم تنفذه» كان وزنى وصل إلى 79 كيلو قررت أن استغنى عن 18 كيلو منهم لأى سيدة نحيفة القوام! آخر ثلاث أغنيات قدمتها - مازالت ليلى مراد تواصل الحكى - هى «العيش والملح» و«يا مين يقوللى» و«ليه أفكر فيه ولا أحن إليه.. هو خللى إيه عينى تبكى عليه.. بعد حبه ليه راح أشغل روحى بيه»! المشكلة فى الأغانى عندى هى اختيار الفكرة والكلمات.. عندى أكثر من مائة أغنية قدمها أصحابها لا جديد فيها.. أضف إليهم الأغنية التى جاء بها إلى بليغ حمدى ومحمد حمزة عبارة عن كلام مرصوص ليس إلا.. و.. «حافظين عشرة أتناشر كلمة نقل من الجرنال.. شوق وحنين وأمل وأمانى وتيه ودلال.. واللى اتعاد يتزاد.. يا أخوانا وليل هواه نقراه.. يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله» رأى مناسب كان قد قاله بيرم التونسى!

على الباب بعد انتهاء الحوار ودعتنى ليلى مراد ليست ببقايا ابتسامة كانت مرتسمة على شفتيها عند استقبالى.. اختفت الابتسامة التى حلت بدلاً منها نظرة أسى تبدو مع دمعة حزينة فبدأ على صوتها التأثر قائلة: الزمن الذى كنت أتمنى أن أعيشه راح وولى بالرغم من ذلك وبالنيابة عنى قل لجمهورى - رغم الابتعاد - بأننى «مشتاقة لك.. مشتاقة لك.. يا حبيبى ألف مرة قلتها لك.. من زمان وأنت واحشنى.. ومشتاقة لك يا حبيبى».