هل يأجوج ومأجوج مازالوا محبوسين؟
سؤال نطرحه، يبدو غريبًا من أول وهلة، خاصة مع كثرة الأدلة من القرآن والسنة على أن هذا الخروج سيكون آخر الزمان بعد نزول عيسى عليه السلام وقبل قيام الساعة، ومن يقف عند ظاهر هذه النصوص اليقينية والأدلة النبوية التي بلغت حد التواتر المعنوي، يوقن تمام اليقين أن الخروج لم يقع بعد، وأن يأجوج ومأجوج ما زالوا يربضون خلف السد ينتظرون الوعد الحق لهم بالخروج.
لكن وجه الغرابة في هذا السؤال المطروح أن هناك من ذهب إلى القول بأنه لا مانع من أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا، وأن هذا الخروج ما هو إلا انسياح جحافل التتار شرقًا وغربًا وإسقاطهم الممالك والعروش، واجتياحهم لبلاد الإسلام في القرن السابع الهجري، وقد استدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1]. وبما روته زينب بنت جحش عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دخل عليها فزعًا يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا". وحلق بإصبعه وبالتي تليها، فقالت زينب: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم، إذا كثر الخبث".
وهذا الذي فزع منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، نذير للعرب بزوال ملكهم على يد يأجوج ومأجوج، وقد تنبأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وقوعه، وبناء على هذا عد القائلين بهذا خروج يأجوج ومأجوج من العلامات الصغرى التي وقعت وانقضت.
وممن ذهب إلى القول بهذا الشيخ القاسمي، إذ يقول: "والغالب أن المراد بخروجهم هذا خروج المغول التتار، وهم من نسل يأجوج ومأجوج - وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجرى. وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض من فساد..".
ومنهم - أيضًا - الشيخ المراغي، حيث يقول عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾: وقد جاء وعده - تعالى - بخروج جنكيز خان وسلائله فعاثوا في الأرض فسادًا. وأزالوا معالم الخلافة من بغداد...
وفي موضع آخر من سورة الأنبياء: ﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ﴾ [الأنبياء: 96، 97]، وهذا النص - أيضًا - لا يحدد زمانًا معينًا لخروجهم، فاقتراب الوعد الحق، بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء في القرآن: اقتربت الساعة وانشق القمر، والزمان في الحساب الإِلهي غيره في حساب البشر، فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون.
وإذن، فمن الجائز أن يكون السد قد فتح ما بين: اقتربت الساعة، ويومنا هذا.وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج.
وهنالك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها حبيبة، عن زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: استيقظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نومه وهو محمّر الوجه وهو يقول: "ويل للعرب من شر قد اقتربت، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا". وحلق بإصبعيه السبابة والإبهام. قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم، إذا كثر الخبث".
وقد كانت الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن. وقد وقعت غارات التتار بعدها، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين. وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلم ذلك عند الله. وكل ما نقوله ترجيح لا يقين.
بيد أن الإمام القرطبي وقد عاصر هذه المحنة، له رأي آخر: "وهذا الخبر قد وقع على نحو ما أخبر - صلى الله عليه وسلم -، فقد قاتلهم المسلمون في عراق العجم مع سلطان خوارزم - رحمه الله - وكان الله قد نصره عليهم، ثم رجعت لهم الكرة فغلبوا على عراق العجم وغيره، وخرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم، فنسأل الله تعالى أن يهلكهم ويبدد جمعهم..".
لكن، هناك من العلماء من يرى خلاف ذلك، ويذهب إلى أن هؤلاء القوم لم يخرجوا بعد، وما زالوا محبوسين ينتظرون الوقت الذي يؤذن لهم فيه بالخروج، وممن ذهب إلى ذلك صاحب تفسير أضواء البيان، إذ يقول: "اعلم أن هذه الآية: فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وآية الأنبياء: حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ قد دلتا فى الجملة على أن السد الذى بناه ذو القرنين، دون يأجوج ومأجوج، إنما يجعله الله دكًّا عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه. وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة؛ لأن المراد بيومئذ فى قوله: ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ﴾ [الكهف: 99] أنه يوم مجيء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم فى الأرض.
وآية الأنبياء تدل في الجملة على ما ذكرنا هنا. وذلك يدل على بطلان قول من قال: إنهم " روسيا " وأن السد فتح منذ زمن طويل.
والاقتراب الذي جاء في قوله تعالى: ﴿ اقتربت الساعة ﴾ وفي الحديث: "ويل للعرب من شر قد اقترب" لا يستلزم اقترانه من دك السد، بل يصح اقترابه مع مهلة.
وهذه الآيات لا يتم الاستدلال بها على أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد إلا بضميمة الأحاديث النبوية لها.
ومن ذلك ما رواه الإِمام مسلم في صحيحه في ذلك، وفيه: خروج الدجال وبعث عيسى، وقتله للدجال.. ثم يبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون.
فينحاز عيسى ومن معه من المؤمنين إلى الطور.. ثم يرسل الله على يأجوج ومأجوج النَّغَف في رقابهم فيموتون.
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يوحى إلى عيسى ابن مريم بخروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال فمن يدعى أنهم "روسيا" وأن السد قد اندكّ منذ زمان، فهو مخالف لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة صريحة لا وجه لها، ولا شك أن كل خبر يخالف الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل؛ لأن نقيض الخبر الصادق كاذب ضرورة كما هو معلوم.
ولم يثبت في كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده، ووضوح دلالته على المقصود.
والذي يميل إليه وجه اليقين أن يأجوج ومأجوج ما زالوا خلف السد، ينتظرون الخروج، وأن خروجهم سيكون بين يدي الساعة، كما دلت على ذلك قوله تعالى في سورة الكهف في أعقاب الحديث عنهم: ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ﴾ [الكهف: 99].
وقوله - تعالى - في سورة الأنبياء: ﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ﴾ [الأنبياء: 96، 97]. كما دل على ذلك - أيضًا - الأحاديث الصحيحة التي تثبت خروجهم كعلامة على قرب الساعة ودنوها.
قال ابن قدامة المقدسي - رحمه الله: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وصح به النقل فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وما جهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإسراء والمعراج... إلى أن قال: ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله وخروج يأجوج ومأجوج...". لمعة الاعتقاد لابن قدامة ص30.
وقال القاضي عياض: "الأحاديث الواردة في يأجوج ومأجوج: هذه الأخبار على حقيقتها يجب الإيمان بها؛ لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة، وقد ورد في خبرهم أنه لا قدرة لأحد على قتالهم من كثرتهم، وأنهم يحصرون نبي الله عيسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين الذين نجوا من الدجال، فيدعو عليهم فيهلكهم الله عز وجل أجمعين بالنَّغَف - وهو دود في رقابهم - فيؤذون الأرض والمؤمنين بنتنهم، فيدعو عيسى وأصحابه ربهم فيرسل الله طيرًا فتحملهم حيث شاء الله". إكمال المعلم 6/ 115، 116.
وقال السفاريني - رحمه الله: "إن خروجهم من وراء السد على الناس حق ثابت لوروده في الذكر وثبوته عن سيد البشر، ولم يحله عقل فوجب اعتقاده". لوامع الأنوار 2/ 116.