دموع الأمهات.. بين عقوق الأبناء والعطف عليهم

الفجر الطبي

دموع الأمهات - أرشيفية
دموع الأمهات - أرشيفية


خلق الله تعالى الأنثي وهي تحمل في تكوينها الأمومة وبث في صدرها الحب والحنان، ومنح عينيها القدرة على سهر الليالي، فالأم حكاية بلا نهاية وعطاء بلا حدود وحب فطري يسكن قلبها على أبنائها، فيها كُتبت الأشعار والقصائد، فالشاعر محمود درويش في إحدى روائعه يحن إلى صدر أمه وإلى خبز أمه ولا شك أن كل مخلوق على الأرض يراوده الحنين نفسه…"إن أجمل وردة في الكون هي إبتسامة على وجه أمي وأحن وسادة أضع عليها رأسي هي صدرها الدافئ الحميم" .. إنها مقولة تعبر عن مكانة الأم العظيمة في القلوب تلك المرأة التي علّمت الكثير، وأعطت بلا حدود ودون انتظار شيء من أبنائها، إنهن جيل الأمس، ونتيجة لجملة التغيرات التي طرأت على الأسرة المصرية نجد أن هناك إهمالاً يجسده العقوق من بعض الأبناء لأمهاتهم والواقع يقول أن هناك مسنين ومسنات نسيهم أبناؤهم في مراكز تتولى رعايتهم.. حكايات حزينة..ودموع تنهمر… هكذا ينتهي قطار العمر على الناس مثلما انتهى بكثيرين قبلهم، فبعدما ربّت الأم وسهرت وأعطت كل ما تملك لأبنائها من عمرها وشبابها, منتظرة بفارغ الصبر أن يكبر يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة ولحظة بعد لحظة, وكذلك الأب الذي أمضى حياته جاهداً من أجل لقمة عيشهم, يجحد بعض الأبناء فضل آبائهم, ويُرمى الأب وتُرمى الأم إلى درب مجهول ليذهب بعضهم ممن يحالفهم الحظ إلى "دور المسنين" وبناءاً عليه قمنا بالتحقيق في هذه السلوك المُشين -إن صح القول- لنعرف تفاصيل ونقترب من بعض الحالات وماهي الأسباب والدوافع التي تؤدي إلي التخلي عن الأمهات ؟ وما الذي حثنا عليه الشرع في التعامل معهم ؟ وكيف نقضي على تلك السلوك ؟ ، نتابع…
دموعٌ تحكي…
توجهت إلي إحدي دور المسنين ويطلق عليها"دار البيت بيتك" بـمدينة نصر وطلبت الإذن لمقابلة بعض النزيلات والتحدث إليهن فـوافقت مسئولة الدار لأجد آهات الأمهات المسنات حارقة وتكاد تزرف بدل الدموع دماً، فهذه سيدة تُدعي "أم محمود" تبلغ من العمر 69 عاما تركها أبناؤها في الدار، تعترف بأن الأبناء يرسلون لها النقود التي تنفقها في الدار ولكنها ترى أن الأهم من ذلك هي حاجتها لحسن التعامل والدعم العاطفي وتقول: اخترت بإرادتي أن أقيم في دار المسنين بعد وفاة زوجي وانشغال أبنائي ورحيلهم، وما أغضبني هو ترحيب أبنائي بهذا الاقتراح ، أدركت وقتها أن الإنسان ثقيل للغاية حتى وإن كانت هذه أمه نفسها وتتابع حديثها: وفي الدار وجدت زميلات يؤنسن وحدتي، ولكنني أظل أترقب الباب طويلاً لعل أحداً من أبنائي يأتي لزيارتي… والأم صامتة تتألم لحال أبنائها في صمت محزن وشكواها هي الدموع، وحديثها عن عيد الأم : "أقضيه هنا بين زميلاتي وأبنائهم أثناء زيارتهم لهن".
وسيدة أخري تُدعي "نبيلة" تبلغ من العمر 72 عاماً حكت قصتها وتقول : تزوجت زوجا كان يحبني ويحترمني وقابلتنا الصعاب في بداية حياتنا ولكننا تغلبنا عليها وسرعان ما أنجبنا إبننا حسينوعمت الفرحة أرجاء البيت" ولكن دوام الحال من المُحال توفي الله زوجي وكان حسين لم يزل في الخامسة عشر من عمره  فحرصت على عدم الزواج وتربية ابني والكفاح من أجله وعملت في أكثر من مكان حيث أنني حاصلة على شهادة الدبلوم وربيت حسين حتي كبر وتخرج من كلية الهندسة وقد نال وظيفة جيدة في شركة مقاولات لكونه متفوق دراسياً وعملياً وجاء الوقت الذي طالما انتظرته عندما حدثني حسين أنه يريد خِطبة إحدي زميلاته بالعمل وتقدم إلي أهلها ووافقوا عليه بحيث تقيم إبنتهما في بيت أبيه وأمه ولكن اشترطت عليه عروسته بأن يودع أمه بدار مسنين حتي لا تحمل مسئوليتها وبالفعل وافق الإبن العاق والزوج المطيع وعرض الأمر عليّ ولم أتردد فطالما أردت له السعادة دائماً وفي بداية دخولي كان ابني يزورني ويشاركني المناسبات وقلت الزيارات تدريجياً حتي انقطعت وأكملت "غارقة في بكائها" : "هل جزائي بعد معاناتي في تربيته الطرد والإهمال ؟! ، مش قادرة أدعي عليه أكيد مشغول" و"حسبي الله ونعم الوكيل في مراته".

تحدثت المسئولة في هذه الدار فقالت: إن الجميع هنا يعيشون حالاً أفضل من السابق, فإحدى المقيمات تقول بأنها تحس بالكرامة هنا على عكس إحساسها بالذل في بيت ابنها أو أقاربها, إلا أنهم هنا وجدوا الراحة والأمان لذلك تعايشن مع هذا الوضع منذ زمن, ومشاكلهم قليلة جداً وينامون كثيراً ويجلسون بهدوء أيضاً، أما عن سبب وجودهم فبعضهم لا يوجد له مُعيل والبعض الآخر تركه أقربائهم وكل هذا إنما هو نتيجة التربية الخاطئة، وكما يُقال- ازرع تحصد – أو سوء التصرف من قبل الأهل إذ إنهم يثقون ثقة عمياء بأولادهم ويسلمونهم كل ما يملكون من أموال, فيجب أن تُراعى مبادئ وأسس صحيحة في التربية كعدم التدليل والإسراف فيه إلى حد كبير.

مكانة الأم..
يرى الشيخ "إبراهيم رضا" من علماء الأزهر الشريف أن الإسلام يحث على التكافل الإجتماعي والأسرة في الإسلام وحدة متكافلة وقد عمل الإسلام على دعمها لتكون قوة متماسكة ولقد اهتم القرآن الكريم ببيان أحكام الأسرة وقد حث الدين الإسلامي الحنيف علي بر الوالدين ورغّب في صلة الرحم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي قال: أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس وأضاف إن الدين الحنيف عمل على تعزيز التضامن الأسري بطريقة مباشرة، والإسلام ليس عقيدة فحسب ولكنه نظام اجتماعي ينظر إلى المجتمع ككل، كما يوضح أن للأم من المكانة ما يأتي بعد طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته استناداً لقوله تعالي : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالديّن إحساناً وقوله تعالى :وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً وهذا تأكيداً على أن طاعة الآباء تأتي في المرتبة الثانية بعد طاعة الله وخصَّ النبيُ الكريم الأم بمزيد من التكريم والتشريف فـعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ( معاوية بن حيدة ) رضي الله عنه قلت : يا رسول الله من أَبَرُّ ؟قال : ( أمك) قلت من أبر؟ قال : ( أمك ) قلت من أبر؟ قال : ( أمك ) قلت من أبر ؟ قال : (أباك ثم الأقرب فالأقرب). وكان تكرار الأم ثلاثاً لما لها من مكانة عند الله ورسوله، والحديث عن فضل الأم لا نستطيع أن نستوفي حقها من خلاله  لذلك يقول النبي عن حياة الأم: "اذا ماتت الأم نادى منادى من قِبل الله تعالى يا بن آدم ماتت التي كنا نكرمك من أجلها فأعمل عملاً صالحاً كي تُكرم من أجله، ومن أبسط الحقوق إحترامها وتوقيرها والإحسان إليها من خلال الفعل الطيب الذي يليق بمقام الامومة منه حُسن الرعاية وحُسن المعاملة والإنفاق عليها حتي وإن كانت تملك الدنيا بأسرها والمساعدة وبذل النصيحة والمعاملة على البر والتقوي وسداد دينها إن وُجد تنفيذاً لتوصية الرسول وصلة أهل البر بها استناداً لقول الرسول: "إن من البر أن يصل الرجل أهل وِد أبيه" 

عكس ماسبق يعد عقوق للوالدين مثل عدم إحترامهم وعدم تنفيذ أوامرهم ونهرهم والإساءة إليهما وعدم الإنفاق عليهما إذا كانا محتاجين والتخلي عنهما وقطع الوصال لهما وعدم الإحسان إليهما كل هذه الأمور تجلب غضب الوالدين وبالتالي غضب الله سبحانه وتعالي، فأعظم أبواب الرحمة ما زالت مفتوحة لكل شاب له أب او أم على قيد الحياة لذلك يجب أن تعاملوا والديّكم كما وصانا النبي وليس بحُسن المعاملة فقط ولكن بتهيئة الجو النفسي المناسب لعمرهم وحالتهم الصحية، أما عن دور الآباء فالرسول علمنا أن للإبن حق على أبيه قبل أن يخرج إلي الدنيا يتمثل في إختيار أم له تجيد تربيته لا الجميلة والرشيقة وأن يكون الأبوان عوناً لأبنائهم على طاعة الله لأن الأبن إذا أهمله أبواه يجعل هذا منه شخصية مستهترة غير مطيعة.
 
التهيئة النفسية..

يشير الدكتور "جمال فرويز" استشاري الطب النفسي والمخ والأعصاب إلي أهمية العامل النفسي في التعامل مع الأم المُسنة المسنة وأوضح أنها تحتاج إلى عناية جسدية ونفسية أيضًا، وحرمانها من الاهتمام بها وإهمالها يؤلمها ويفاقم مشاكلها النفسية والبدنية، إلى جانب ما بها من أمراض وآلام تجلبها الشيخوخة بطبعها وتداخل الأدوية بدوره يؤثر بالسلب عليها، وقال على الإبن أن يقاوم الضغوط ويحتفظ بوالده أو والدته تحت إشرافه ويرى أن انتقال المسن إلى دار المسنين يؤلمه ويؤذيه، ويشعره بخسارة فادحة في جهده الذي بذله في تربية أولاده، فـمن الأفضل رعاية الأم المُسنة بواسطة أحد من أهلها وتجنب إرسالها إلي دار مسنين وهذا خطأ نتعرض له خصوصاً لمن تعاني من خرف الشيخوخة فـالمرض يجعل عند الشخص صورة ذهنية للمكان داخل المخ ويتصرف ويتحرك وفقاً للخريطة المرسومة داخل رأسه وبالتالي إذا انتقل إلي مكان آخر يحدث له إضطراب سلوكي ويؤدي إلي التبول اللإرادي وبعض الأعراض الأخري عند المُسن وزيادة سوء الحالة النفسية بالإضافة إلي أن أغلب المُسنين يعانون من الإكتئاب نتيجة إهمالهم وعدم السؤال عنهم، يحتاج الشخص المسن الحنان والعاطفة بجانب الرعاية والسؤال ويقل هذا تدريجياً الآن بسبب طول المسافات وظهور التكنولوجيا التي يستعين بها الابناء للإطمئنان على والديّهم، وبسؤاله عن الخدمة النفسية التي تُقدم بدور المسنين أجابني: دعنا نؤكد على عدم قيام دور المسنين بواجباتهم تجاه النزلاء على أكمل وجه حتي أنها لا تصلح ليعمل بها موظف وكلما كان المعالج النفسي متطوعاً كان هذا أفضل لسوء خدمة المعالج المأجور، والخدمة الأمثل تتحدد بنوع شخصية المسن ومدى تقبله للوضع الجديد، ويجب العمل على تعويضه نفسيا وعاطفيا عما تسبب له من ألم وإهمال الابناء وتلبية رغباته المقبولة والخدمة الجيدة تُحيي الأمل داخله وترّغبه في الحياة.

التحليل والحل…

تقول الدكتورة "إجلال إسماعيل حلمي" أستاذ علم الإجتماع بجامعة عين شمس: أصبحت القيم الأخلاقية التي تخدم سلوكنا في حالة مزرية جداً وأرجعت السبب إلي إهمال دور المؤسسات الإجتماعية وعدم إتساقها في عملية التنشئة الإجتماعية بجانب الأسرة فنجد ما يعلّمه الآباء لأبنائهم الإعلام يمحوه لما يقدمه من مادة عنيفة وتركيزه على ظاهرة ما دون أن يوعي من سلبياتها وبالتالي يسهل على الفرد اكتساب تلك الخبرات السيئة فضلاً عن جماعة الأصدقاء إن كانت سيئة الأخلاق أو المدرسة والجامعة المهتمين بالنهج التعليمي دون الأخلاقي، أضافت أن الظواهر السلبية في المجتمع الظاهرة لنا هي 10% فقط  وهناك ظواهر أخري تُعرف بـ"العنف المسكوت عنه"

وهو العنف الأسري الذي يتضمن عقوق الوالدين فلا نجد أحد يبوح بأن أحد أبنائه يهينه بالضرب أو السب أو الطرد وهذا ناتج عن رؤية الأبناء في الصغر لأبويّهم في وضع عنيف هذا بالنسبة للعقوق.. أم عن التخلي عن الأمهات نجد أن الفئات المتواضعة إجتماعياً أكثر تراحماً في رعاية الآباء وعلى قناعة بأهمية دور الجد والجدة بالأسرة ولا يمكن التخلي عنهم، أما الفئات المتوسطة والميسورة نجدهم يرسلوا ذويهم إلي دور المسنين لإنشغالهم عنهم بطبيعة عملهم الدائم وعدم القدرة على تحمل مسئولية رعايتهم خاصة وإن كانوا مرضي فيلجأوا إلي هذا الحل مقابل مبلغ يُدفع إلي الدار لتقديم أفضل رعاية بالرغم أن لاشئ يضاهي حنان الأبناء، لذلك تعتبر الأسرة هي المسئولة الأولى عن رعاية المسنين لديها فـدور المسنين ليست بديلا عن الأسرة في هذا المجال وذلك لأن الأسرة تمتلك مواصفات لا تمتلكها دور المسنين وعليه ينبغي أن تلتفت كل الأسر إلى ضرورة العناية بالأب والأم المسنين لأنها هي البيئة المُثلى لتوفير كل أشكال الرعاية للمسن، إذ إن جميع برامج وأجهزة رعاية المسنين على تنوعها ومهما كان مستوى أدائها مرتفعاً وكفاءة العمل بها عالية لا يمكن أن توفر للمسنين ما توفره الأسرة لهم من حب حقيقي وعلاقات حميمة وأمان ومشاعر إنسانية.أما عن الحل المرغوب للقضاء على سلوك عقوق الوالدين وإنهيار القيم الأخلاقية في التعامل معهم فـهو يشمل ثلاث نقاط تتمثل فــي… ما على الآباء وهوغرس قيم المودة والرحمة والتكافل والإجتماعي في أبنائهم والتعاطف وعدم التفرقة فيما بينهم وإذا كانت علاقتهما مبنية على الحب والعطاء ينعكس ذلك في سلوك أبنائهم تلقائياً ، فـالغرس الطيب ينبت نباتاً طيباً. أما الأبناء نجدهم نتيجة الغرس الجيد يدعموا الأب والأم ويحترموهم ويكنوا لهم التقدير على حد قول دكتورة "إجلال"، وينبغي عليهم التمسك بتعاليم الرسول الكريم حول معاملة الآباء.

وأضافت أن على مؤسسات الدولة جميعها التوحد في عملية التنشئة الإجتماعية فالإعلام يجب عليه التوعية والتعليم لا التركيز على الظاهرة دون الكشف عن سلبياتها بإعتباره ناقل للثقافات والأزهر بدوره بث روح التكافل الإجتماعي في المجتمع ونشر تعاليم الإسلام حول المعاملات الأسرية وأن تهتم المؤسسات التعليمية بالدور التثقيفي والأخلاقي بجانب الدور التعليمي، وينتج عن هذا  التكامل تنشئة جيل يُقدّر قيمة الأب والأم وقيمة الإحتفاظ بهما ورعايتهما على أكمل وجه ويقضي على سلوك التخلي عن الوالديّن.