عادل حمودة يكتب: ترامب.. عقلية المقاول وعقلية الرئيس!

مقالات الرأي



■ جنرالات الجيش وشركات السلاح وأجهزة الأمن ساندوا المقامر ضد السيدة العجوز خشية أن تواصل سياسة الفوضى فى الخارج وتجاهل الإرهاب فى الداخل


حروق اشتعلت.. ودموع سكبت.. ونفوس انكسرت.. وتنبؤات انتحرت.. فقد أصبح ترامب رئيسا للولايات المتحدة.. لكن.. لا رد لقضاء الشعب.. ولا رجوع عن تصويته.

لحظة انقلابية مباغتة.. سقطت فيها نظريات سياسية.. ولحقت بها حسابات استراتيجية.. وفى النهاية وجد خبراء الثرثرة أنفسهم فى خجل وخلل.. ولم يعد أمامهم سوى الوقوف على عربة هوت دوجز فى أحد شوارع نيويورك.. فقد أخرج ترامب لسانه لهم، وهو يلقى بتصوراتهم وأحلامهم فى سلة مهملات.. وسكب القهوة على ثياب مقدمى برامج التوك شو فساح الماكياج وكشف شد الوجه وحقن البوتكس.

لم يتخيل أصحاب الياقات البيضاء أن هذا المقامر المقاول سيصل إلى البيت الأبيض.. فقد بدا لهم مهرجا.. يقف بطوله فى أصعب معركة انتخابية بعد أن تخلى عنه حزبه.. وتكتلت الميديا ضده.. ولم تتوقف عن نشر فضائحه الجنسية.. بجانب أنه لا يملك من ثقافة الدنيا سوى ما تنشره مجلة بلاى بوى.. فكيف سيصبح حاكم أقوى دولة فى العالم؟

السؤال نفسه فرض نفسه على مجموعة من الشخصيات المصرية التقت على عشاء بدعوة من الدكتور أحمد العزبى فى منتصف أكتوبر الماضى ضمت مصطفى الفقى ومحمد الخولى ومحمد عبد السلام المحجوب وأسامة هيكل وأحمد زكى بدر وياسر رزق ومحمد الوحش وناجد شنبو.. وعندما جاء الدور علىَّ للحديث قلت دون تردد: ترامب سيفوز.. وكلهم شهود على ذلك.

كنت عائدا للتو من نيويورك ولمست عن قرب رغبة رجل الشارع فى التغيير بحثا عن فرصة عمل مفقودة.. وسلع وخدمات أرخص.. ومستوى معيشة أفضل.. وحياة آمنة فجرها الإرهاب.. ودولة قوية سقطت هيبتها.. وحاكم مختلف قادر على تنفيذ ما يعد به بعيدا عن تأثير مستشارين عاشوا فى أوهامهم وعزلوه عن الحقيقة.

لكن.. تلك المؤشرات الظاهرة لم تكن لتكفى للوصول إلى النتيجة التى بدت مستحيلة.. أن يتربع ترامب على عرش السلطة فى بلاده.. أن يتفوق على خبرة منافسته المشهود بكفاءتها هيلارى كلينتون.. بل أكثر من ذلك يحصل حتى على أصوات مؤيدى حزبها ويكتسح فى الولايات المعادية لحزبه.

صحيح أن البطل الفرد فى السينما الأمريكية يقدر على مواجهة كتائب من الأشرار ويخرج فى النهاية منتصرا وهو يقبل امرأة جميلة يمنحها قبلة مثيرة.. لكن.. ذلك لا يحدث إلا فى جمهورية هوليوود.. أما فى جمهورية البيت الأبيض فإن البطل عادة ما يكون سابق التجهيز.. يمكن دعمه عن بعد.. ولو بدا على السطح غير ذلك.

إن من الصعب تجاهل تأثير المجمع الصناعى العسكرى على صعود ترامب بل واختياره ومساندته.. وذلك المجمع مثلث حديدى يضم شركات تنتج السلاح وجنرالات يخططون للحروب ونوابا فى الكونجرس يشرعون ما يحتاج «المجمع» من قوانين ليصبح دولة داخل دولة تؤثر فى اختيار الرئيس نفسه.

وتعد الحكومة الأمريكية أهم زبون لتلك شركات السلاح حيث تشترى منها ما يزيد على 700 مليار دولار سنويا.. كما أنها تصدر ما يصل إلى 90 مليار دولار لدول مختلفة.. لتحظى بثلت عائد التجارة الدولية للسلاح التى تصل إلى تريليونى دولار -اثنان وأمامهما 12 صفرا- ولكن.. تلك التجارة تراجعت فى سنوات حكم أوباما بنحو 500 مليار دولار مما أجبر شركات السلاح الأمريكية على إغلاق العديد من مصانعها وتسريح المئات من عمالها لتجد فى إصرار ترامب على تخفيض الضرائب بنسبة لن تقل عن 15 % فرصة ذهبية لتعويض المليارات التى فقدتها فلم لا تراهن عليه؟!

وكانت المؤشرات الأولى على نجاح المجمع فى استرداد عافيته تصويت النواب الجمهوريين على زيادة ميزانية البنتاجون «وزارة الدفاع» العام القادم «2017» لتصل إلى 582.7 مليار دولار بعد أن تراجعت كثيرا بتدخل سابق من أوباما.

والمؤكد أن البنتاجون كان على خلاف دائم وحاد مع أوباما سياسيا واستراتيجيا وحدث أن عقدت قيادة أركان القوات المسلحة الأمريكية ورشة عمل لمدة أربعة أيام «فى الفترة ما بين 25 و 28 يناير 2014» بناء على طلب القيادة السياسية لبحث الخيارات المتاحة فى الشرق الأوسط وفى اليوم الأخير شارك قادة الأسلحة فى جلسات الحوار.

ويلخص التقرير السرى الذى عرض فيما بعد على أوباما أهمية المنطقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة لوجود إسرائيل فيها.. ولموقعها المميز عند التقاء ثلاث قارات «آسيا وإفريقيا وأوروبا».. ولاحتوائها على أهم احتياطى غاز ونفط فى العالم.. ولقدرة دولها على الإضرار بالمصالح الأمريكية «كما فعلت كتلة عدم الانحياز أيام الحرب الباردة». أو لقدرتها على المساعدة مثلما فعلت فى حربى العراق الأولى والثانية.

لكن.. رغم هذه الأهمية فإن القيادة الأمريكية أعادت النظر فى ترتيب أولوياتها الخارجية.. وحظيت الصين بالمرتبة الأولى فى الاهتمام.. وجاءت روسيا بعدها.. وقد تضررت دول المنطقة بسبب تلك التحولات.. تحفظت السعودية بسبب توافق واشنطن وطهران لغياب البديل الإقليمى الذى ترتكن إليه.. واعترضت تركيا لتقلص نفوذها.. وخلقت إسرائيل نمطا حربيا جديدا، يعتمد على حرب المجتمعات استغلت فيه الاختلافات الطائفية والدينية والعرقية فى تفتيت العديد من الدول العربية بعد سقوط نظام مبارك.

ويضيف التقرير: إن فترة الثمانية عشر شهرا المقبلة «المدة التى كانت متبقية من حكم أوباما» فترة حرجة بالنسبة للولايات المتحدة.. تستوجب قراءة أشد وضوحا لسياستنا المستقبلية تستوعب التحولات الثورية فى المنطقة.. وتواجه سعى قوى إقليمية ودولية للحصول على مواردها من الغاز بالذات.

إن ظهور الغاز فى أعماق شرق المتوسط جعل جميع دول المنطقة منتجة للغاز.. بما فيها سوريا التى تسعى قطر إلى إسقاط نظامها حتى تمد بحرية أنابيب الغاز المنتج منها إلى البحر المتوسط.. أما مصر فإن ما يستثمر من الغاز فيها جزء بسيط من حقولها الثمينة.. وبالتالى فإن اللاعبين بمقدرات المنطقة يسعون إلى زعزعة الاستقرار فى دولها ليسهل عليهم التفاوض مع النظم الفوضوية البديلة.

ويقيم التقرير اللاعبين الرئيسيين فى المنطقة:

السعودية لاعب مهم، لكن قدراتها الدفاعية لا تكفى إلا لحماية مصالحها.

تركيا لاعب جديد ولكنها تابعة لسلطة القرار الأمريكى.

إيران لاعب مشاغب ولكنها تبقى عبئا على روسيا، كما أن الولايات المتحدة يمكن أن تعود إلى عقابها إذا شاءت.

روسيا لاعب مؤثر وإن تراجعت قوتها النسبية التى كانت تتمتع بها فى سنوات الاتحاد السوفيتى.

أما إسرائيل فهى المشكلة الكبرى، فقد نجحت فى انتزاع الشرق الأوسط من الولايات المتحدة ونقلتها من التأثير بالفعل إلى انتظار رد الفعل.

لقد تصور قادة إسرائيل أن أمنها القومى يتضاعف إذا ما تفتت المنطقة إلى دويلات إثنية وطائفية وعشائرية.. لكن.. الواضح أن المصالح الأمريكية لا تتلاقى مع هذه النظرة.. فقد خسرت الولايات المتحدة العراق وليبيا واليمن وأصبحت سوريا لقمة شهية تحت أسنان الدب الروسى.

وبصريح العبارة يرشح التقرير مصر لدور قيادى، مما يجعل التحولات الجارية فيها شديدة الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة التى يجب عليها مراجعة سياستها المتعلقة بمصر.

إن التفاهمات التى صيغت بين وكالة المخابرات المركزية وقيادات الإخوان فى تركيا ومصر، أسست سياسة خارجية أمريكية إسرائيلية لم تكن مدروسة بعناية.

لقد ساعدنا الإخوان على استلام الحكم، لكن النتيجة كانت سيئة فى مصر.. وظهر بوضوح أن الشعب مستعد لطردهم مباشرة دون توجيه من تنظيم أو حزب.. فى ظاهرة غير طبيعية.. المصريون معروفون بقدرتهم على تحمل المصاعب.. لكن.. مستوى الظلم الذى مارسه الإخوان أجبر المصريين على طردهم من الحكم.

ليست هناك على الساحة العربية والإسلامية حالة واحدة حكم فيها الإخوان بنجاح.. لقد استأثروا بالحكم وعزلوا ممثلى الشعب عن مواقعهم فى إدارات الدولة.. وحولوا مؤسساتها إلى أدوات حزبية.. واعتمدوا على تنظيم الميليشيات وفككوا الجيوش والأجهزة الأمنية.

وقد رصدنا تمويلا يصل إلى 23 مليار دولار خلال العامين الماضيين «2011 2013» وصل منها للتظيمات الإرهابية 9 مليارات فقط.. واستقر الباقى فى جيوب القيادات الإخوانية التى كانت وسيطا بينها وبين الممولين من حكومات ومليارديرات.

وعلى الإدارة الأمريكية أن تحاول تصور سيناريو زعزعة الاستقرار فى السعودية والخليج على شاكلة ليبيا.. إنه سيناريو أسوأ من حرب محتملة ولو غير مباشرة مع إيران.

لقد استطعنا سابقا أن نحسب بدقة متناهية حدود القدرة الإيرانية فى إيقاف إمدادات النفط.. ولكن.. لو سيطرت التنظيمات الإسلامية على بعض دول الخليج، فإن من الصعب علينا الحساب.. لا نعرف اليوم كيف ندبر الوضع فى ليبيا.. وسيكون الحساب أصعب فى الحالة الخليجية.

وربما لهذا السبب فإن قادة أركان البنتاجون أعلنوا دعمهم لمصر بعد أن تخلصت من حكم الإخوان.. وهم فى نهاية تقريرهم يرون أن استراتيجية أوباما بتفضيل الشرق الأقصى على الشرق الأوسط جعلت الخيارات أمامهم محدودة: سياسة شرق أوسطية تريد إعادة رسم المنطقة.. وسياسة أخرى تحاول لملمة الأوضاع ومحاربة الإرهاب.

إن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط فى رأيهم الجازم متأثرة بصورة غير قابلة للنقاش بتوافق إسرائيلى بريطانى فرنسى.. وهو خيار يؤدى إلى التورط فى حرب لفترة طويلة تهدف فيها إسرائيل إلى الهيمنة على المنطقة ونحن ندفع الثمن.. إن الجنود الذين ندربهم فى الأردن سرعان ما نكتشف أنهم ينتمون إلى تنظيمات إرهابية تقتل جنودنا فى ليبيا بسلاح ننتجه بأيدينا والذين ندربهم غالبا ما ينطقون فيما بعد باسم القاعدة.

وهم يرون أن إعادة رسم المنطقة واستمرار سياسة الفوضى الخلاقة قد تؤدى إلى مزيد من إفلات المنطقة من أيدينا لصالح المجهول.. والمجهول المنتظر تشير إليه حقائق واضحة للعين: حروب أهلية تستمر سنوات وتهدد النفط والغاز وتجبرنا على العودة إلى المنطقة لحمايتها.. وسيطرة إسرائيلية على مساحات أكبر من قدرتها على حمايتها، مما يضطرنا إلى العودة من جديد لحماية حلفائنا باتفاقيات دفاعية قائمة.. أو استلام الإخوان والقاعدة مقاليد الحكم فى هذه الدويلات، مما يضطرنا للعودة لاستئصال التنظيمات الإهابية، كما حدث فى أفغانستان.. أو ظهور حاكم عربى متشدد يبنى حضوره ووجوده على عدائنا.

ويرون أن العمل فى المنطقة غير ممكن إن لم يعتمد على محور عربى يتعاون معهم والشركاء المرشحون هم السعودية ومصر والجزائر.. الثلاث معا.. فقدرات كل منها على حدة ناقصة.. السعودية تمتلك التمويل لكنها لا توفر فائضا فى الخبرات التى يحتاجها التعاون السياسى.. ومصر تمتلك هذه الخبرات لكنها تعانى من التأخر فى اتخاذ القرارات.. والجزائر نجحت فى تجربتها التنموية ولكنها لم تتخلص من الفساد فى جوانب حكومية متنوعة.. لكن.. لو توافق الثلاث دول معا وتعاونت معا، فإن المنطقة ستعود إلى حالة الهدوء التى كانت عليها وستنجح فى تقليص قوة التنظيمات الإرهابية.

والمؤكد أن إسرائيل ستعارض هذا الخيار، لكننا أمام قرار سيادى لسنا فيه مجبرين على استشارة دولة أجنبية.. هذه مسألة تتحكم فى مستقبل مصالح الولايات المتحدة فى منطقة شديدة الحساسية.

وفى النهاية يقولون: إن هذا التقرير يقوم على معلومات.. ترفعه لقيادتنا السياسية بقصد اتخاذ القرارات الرئيسية وتبنى الخيارات المتاحة.. وفى حالة تسلمنا القرار السياسى سوف نقوم بوضع الخطط المناسبة لتنفيذه.

لكن.. قرار أوباما لم يتغير.. وتضاعف التدهور فى المنطقة.. مزيد من الحروب الأهلية.. ومزيد من العمليات والتنظيمات الإرهابية سرعان ما عبرت البحر المتوسط لتقوم بتفجيرات فى أوروبا.. وتجاوزت المحيط لتستعيد نشاطها فى الولايات المتحدة.. وهو ما جعل مجمع الأجهزة الأمنية هناك يتهم البيت الأبيض بالتقصير فى مواجهة ما يحدث، بما فى ذلك منع العمليات من منبعها فى الشرق الأوسط.

والمؤكد أن المجمع الأمنى انضم إلى المجمع الصناعى العسكرى فى الإجهاز على هيلارى كلينتون، فوصولها إلى البيت الأبيض يعنى بقاء السياسات والتحالفات الخاطئة على ما هو عليه.. ولم يكن أمام المجمعين بكل ما لهما من تأثير ونفوذ سوى الرهان على ترامب.. خاصة بعد أن صعد نجمه رغم العداء المعلن الذى قوبل به من الجميع.

وأغلب الظن أن ترامب سينفذ التوصيات التى رفعها جنرالات الجيش والأمن إلى البيت الأبيض وتجاهلها سلفه.. مما يعنى أن تغيرا حادا سيحدث فى الشرق الأوسط.. لكن.. هذا الانقلاب لن يكون مجانا.. فترامب عقلية مقاول وليس عقلية رئيس.. فعودة المنطقة للاستقرار تعنى زيادة مقاولات الإعمار التى ستحصل عليها الشركات الأمريكية.. بجانب مبيعات السلاح.. وتكاليف الحماية التى سيقبل بها.. فلا عشاء مجانا حسب المثل الأمريكى.