الدولة المراقب.. واقع جديد يغير قواعد الاشتباك السياسي بين فلسطين وإسرائيل

عربي ودولي


خمسة وخمسون عاما كاملة هي عمر كفاح الشعب الفلسطيني في محاولة إقامة دولته التي تلاشت تدريجيا منذ أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947، فخلال هذه المرحلة الزمنية الطويلة ناضل الفلسطينيون، حربا وسلما، من أجل تثبيت واسترجاع حقوقهم، بينما لم يلتزم الطرف الاستيطاني الاستعماري المحتل حتى بقرار التقسيم ذاته، بل أخذ يتمدد بمستوطناته واستعماره في كافة الأراضي الفلسطينية التي أقرها ذلك القرار.

لكن كانت ليلة الأمس ، 29 نوفمبر 2012، موعدا جديدا على طريق إحياء آمال ونضال الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الواقعية الطبيعية القابلة للحياة؛ فقد أقرت الأغلبية الكاسحة من الدول الأعضاء بالجمعية العامة للأمم المتحدة (138 دولة من مجموع 193 دولة) طلب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عباس أبو مازن ، برفع تمثيل فلسطين إلى صفة دولة مراقب غير عضو بالأمم المتحدة؛ الأمر الذي يعني إصدار شهادة إحياء -وليس ميلاد- دولة فلسطين، لأن فلسطين دولة قائمة منذ آلاف السنوات، وهي لا تحتاج أبدا لشهادة ميلاد، لكن تحتاج للبعث وللاحياء بعد أن كاد الاحتلال الإسرائيلي يطمس معالمها، ليس جغرافيا فحسب، وإنما تاريخيا ودينيا وثقافيا وعرقيا.

لقد تمكن الفلسطينيون بالأمس -وفي ذكرى تقسيم دولتهم- من تحقيق خطوة أولى ومهمة للغاية، معنويا وقانونيا ودبلوماسيا، في سبيل تعزيز كفاحهم بكافة الوسائل المشروعة التي تكفلها القوانين والأعراف الدولية من أجل أن يصلوا إلى هذا الحدث التاريخي، والذي أكد فروق جوهرية بين عقلية الفلسطينيين والإسرائيليين.

وتتمثل هذه الفروق في أن ثمة طرف يريد التعايش والسلام مقابل طرف لا يقبل إلا بعنترية القوة ، فالرئيس أبو مازن قد ذكر في كلمته أمام الجمعية العامة بأن الفلسطينيين لا يريدون نزع الشرعية عن إسرائيل بل تأكيد شرعية دولة فلسطين ،

وكذلك أرفق أبو مازن مع طلبه نيل العضوية مطلب استئناف المفاوضات للتوصل إلى تسوية سلمية تحفظ حقوق الشعب الفلسطيني بإقامة دولة على حدود ما قبل 5 يونيو 1967.

بينما كانت كافة ردود الفعل الإسرائيلية تقول إن مشروع القرار منحاز، وإن نيل طلب فلسطين صفة الدولة المراقب لا تدفع قدما باتجاه السلام ، بل وذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن ذلك لا يغير الوضع على الأرض في شيء ،

ولم يكتف بذلك فقط، لكنه كذلك هاجم خطاب أبو مازن، متهما إياه بأنه عدائي وسامي وحافل بالدعاية الكاذبة .

ومما لا شك فيه أن موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على الطلب الفلسطيني سوف تشكل علامة فارقة على طريق استكمال الطرف الفلسطيني لمسيرة استرجاع حقوقه المسلوبة، وأنه قرار ما بعده ولا ريب يجب أن يختلف عن ما قبله.

ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب، يأتي في مقدمتها أن الفلسطينيين قد تمكنوا من نزع اعتراف عالمي واسع عبر نيل وضع دولة مراقب غير عضو بالأمم المتحدة بأن شعبهم وأراضيهم على حدود 1967 إنما تقع تحت الاحتلال، وأن المستوطنات والجدار العازل وكافة الإجراءات الإسرائيلية الهادفة إلى قضم مساحة الدولة الفلسطينية وقطع تواصلها الجغرافي والسكاني، ما هي إلا تدابير تقوم بها دولة محتلة.

ويستتبع ذلك الأمر، أي إقرار الدولة الفلسطينية، تغير الإطار القانوني للعلاقات التفاوضية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، فطالما دخلت إسرائيل في مساومات تفاوضية منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام وانطلاق عملية أوسلو في مطلع التسعينيات تقوم على أن الأراضي على حدود 1967 هي مناطق متنازع عليها، وهو فرض لم يكن له أي أساس الصحة، فهذه الأراضي أراض فلسطينية لا يجوز المساومة عليها؛ وهو ما يستوجب على الفلسطينيين عودة اللحمة الوطنية ونزع الفرقة السائدة منذ عام 2007 ، وعودة التصالح بين قطاع غزة والضفة الغربية، وليس فقط بين حركتي فتح وحماس، لأنه أمر بالغ الأهمية أن يثبت الفلسطينيون أمام العالم استحالة التقسيم الجغرافي والسياسي بين أراضيهم.

إن تحول المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل في الضفة الغربية، بما فيها القدس، من أراض متنازع عليها إلى أراض محتلة وفقا للقانون الدولي من شأنه بالتالي أن يدفع الفلسطينيون إلى تجاوز مسار المفاوضات أو التصلب فيها على قاعدة أن ما منحتهم إياه الشرعية الدولية من حقوق سيادية على صعيد المسائل الجوهرية تحديدا (الحدود، العاصمة، عدم شرعية المستوطنات) لم يعد مجالا للمساومة مرة جديدة على طاولة التفاوض.

ويقول المتخصصون الفلسطينيون إن الإنجاز الفلسطيني الذي تحقق بالأمس هو تجسيد معنوي حيوي للدولة الفلسطينية، لكنه يستتبع تجسيدا سياسيا وتوافقا فلسطينيا يقود إلى تحويل هذه الدولة المعنوية إلى دولة واقعية .

وهنا يلاحظ البعض أن فلسطين بدأت نضال الاعتراف بحقوقها أمام العالم باعتبارها دولة افتراضية لكنها تحولت الآن إلى دولة معنوية، وينتظر أن يثمر النضال عن الوصول إلى الدولة الواقعية.وهناك سبب إضافي يجعل هذا التاريخ مختلفا عما قبله، حيث يحق لفلسطين منذ الآن أن تنضم بصفة رسمية إلى عدد كبير من المنظمات والمعاهدات الدولية، بعد أن أضحت الدولة المراقبة الثانية في الأمم المتحدة، إلى جوار الفاتيكان ، مغزى ذلك أنه يجوز لدولة فلسطين التمتع بكافة الحقوق التي تنطوي عليها العضوية باستثناء حق التصويت في الجمعية العامة والعضوية الدولية في مجلس الأمن الدولي .

ويأتي على قمة هذه الحقوق الحق في الانضمام إلى أكثر من ثلاثين من المنظمات والمعاهدات الدولية المختلفة المنبثقة عن هيئة الأمم المتحدة مثل: ميثاق حقوق الإنسان، ومحكمة الجنايات الدولية، ومعاهدة جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، واليونيسيف، وكافة لجان حقوق الإنسان الدولية والإقليمية؛ وهو ما سيتيح للفلسطينيين صوتا واقعيا في هذه المنظمات والمعاهدات.

ويجب استثمار هذه الميزة بشكل مكثف ونشاط دؤوب بمساعدة من جامعة الدول العربية وكل القوى الصديقة، إذ تخشى إسرائيل أن تمارس الدولة الفلسطينية المعنوية أنشطة سياسية على صعيد المزيد من تجريم أفعال إسرائيل وتعزيز المقاطعة الشعبية أو الأهلية القائمة في دول مختلفة ضد إسرائيل ، ونتذكر هنا أن دولة سويسرا كانت دولة مراقب بهيئة الأمم المتحدة حتى عام 2002، لكنها كانت مركزا قويا ذات وزن وثقل في كافة الأنشطة الدولية.

وعلى الرغم من تقليل إسرائيل لأهمية هذه الخطوة الفلسطينية التي استبقتها بجهود سياسية مكثفة وحاشدة لمنع حصول الطلب الفلسطيني على أغلبية الثلثين في الجمعية العامة، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل، ويتوقع أن تتخذ في الفترة المقبلة بعض الخطوات العقابية ضد الفلسطينيين مثل منع تحويل الضرائب إلى السلطة الوطنية الفلسطينية والتضييق على سائر المعابر وتخفيض عدد تصاريح العمل للفلسطينيين ومحاولة تكريس الانفصال الجغرافي بين المناطق الفلسطينية، بيد أن أي أفعال إسرائيلية لن تغير من واقع أنها دولة احتلال يفرض قوته على الطرف الآخر.

كما أن الجامعة العربية التي دعمت الموقف الفلسطيني قد تعهدت بتقديم مائة مليون دولار شهريا للفلسطينيين كشبكة أمان بديلة في حال فرض عقوبات إسرائيلية وأمريكية على السلطة الوطنية الفلسطينية.

ويبدو الأمر والإنجاز الأكثر أهمية للفلسطينيين في عام 2012 هو تغير قواعد الاشتباك مع إسرائيل، إن عسكريا أو سلميا؛ فللمرة الأولى تضحى إسرائيل في قتالها مع الطرف الفلسطيني منفردا أمام انكشاف استراتيجي وعسكري بعد أن أصابت صواريخ المقاومة الفلسطينية مدنا عدة داخل إسرائيل، في مقدمتها تل أبيب ، وتخسر إسرائيل في الوقت ذاته معركة دبلوماسية ضروس استطاع الطرف الفلسطيني أن يكسبها بامتياز بعد طول عناء وضغوطات شديدة تعرض لها من الولايات المتحدة الأمريكية لإثنائه عن هذه الخطوة.

إذن تبدو إسرائيل أمام انكشاف سياسي وعسكري ودبلوماسي وأخلاقي، وكأنها تدفع ثمن عرقلتها لجهود التسوية السلمية واستخدامها المفرط للقوة الأمنية والعسكرية في مواجهة الطرف الفلسطيني الذي كان أعزلا ؛ ولم تأت الخشية والارتباك الإسرائيلي من عضوية فلسطين غير الكاملة في الأمم المتحدة من فراغ، بل من المكتسبات المعنوية والسياسية التي تتيحها تلك العضوية للسلطة الفلسطينية؛ وهي تداعيات إيجابية على المستوى الفلسطيني والعربي، لا يجب أن يمر مرور الكرام ، حيث من المتوقع أن تشهد الأراضي الفلسطينية وقائع تشبه -مع اختلاف التشبيه- الربيع العربي الذي من أبرز أهدافه تحقيق الحرية، والتي لم يعرفها الفلسطينيون منذ عام 1947 على الأقل.

أخيرا، لقد أقر رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس أبو مازن أن هذه الخطوة الإيجابية لا تعني نيل أو إعلان دولة فلسطين المستقلة، لأن نيل الاستقلال لا يأتي عبر الأمم المتحدة ، وإنما يأتي عبر مواصلة الكفاح النضال المدني والسلمي، والحربي في حالة الضرورة.

ومع ذلك يمكن تكثيف الأنشطة الفلسطينية نحو ممارسة أعمال عدة لتكريس السيادة التي يكفلها نيل صفة الدولة المرقب غير العضو؛ لأن هذه العضوية تفتح المجال أمام توقيع وانضمام فلسطين إلى منظمات دولية متخصصة، مثل اتفاقية قانون البحار ومنظمة الطيران المدني الدولي ، ويمكن بالمثل أن تجادل هذه الدولة من الناحية القانونية بحق سلطتها على المياه الإقليمية قبالة سواحل قطاع غزة، وبحق المطالبة بالغاز الطبيعي الواقع ضمن المنطقة الاقتصادية الفلسطينية الخالصة، وتقدم طلبات إلى الأمم المتحدة لإدانة الخروقات الجوية الإسرائيلية لأراضي غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، باعتبارها أجواء سيادية فلسطينية.

خلاصة الأمر أن الفلسطينيين أنجزوا بالأمس خطوة إيجابية كبرى على صعيد قضيتهم العادلة والشريفة، لكنها خطوة معنوية وقانونية وسياسية في المقام الأول، ولذا يجب على المستوى العربي والفلسطيني بذل جهود مكثفة من أجل تحويل هذه الدولة المعنوية إلى دولة واقعية حتى تصل مثل شعوب الأرض إلى دولة كاملة العضوية بهيئة الأمم المتحدة.