عادل حمودة يكتب: "أسئلة صعبة نتحدى شريف إسماعيل الإجابة عنها".. مصر تسدد فواتيرها القديمة الثقيلة بعد طول تأخير

مقالات الرأي



بعد سنوات طويلة من المماطلة والتسويف والإنكار تجد مصر نفسها مجبرة على سداد فواتيرها السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية المتأخرة عليها دفعة واحدة مع الفوائد والغرامات.. ولا مفر من السداد مهما كانت المعاناة.. فالبديل إما أن تفقد تماسكها.. أو تفرط فى كرامتها.. وبحكم مهنتى كنت حاضرا وشاهدا على بدايات ما وصلنا إليه.

■ أين أنفقت الدولة 76 مليار دولار حصلت عليها من دول خليجية ومن مدخرات مؤسسات بعينها بجانب الاحتياطى الأجنبى؟ ولماذا لم تستخدمها فى تحرير سعر الصرف وهى تملك هذه المبالغ المناسبة؟

■ مظاهرات يناير 1977 أصابت 5 نظم و17 حكومة بعقدة نفسية ضاعفت من الأزمة حتى وصلت بنا إلى حد الإفلاس

■ السادات عالج الأزمة بالسفر إلى إسرائيل لتلقى معونة من واشنطن.. لكنه دفع حياته ثمنًا لذلك

■ مبارك أرسل 400 ألف جندى للحرب فى الخليج وفى المقابل أسقطوا 27 مليار دولار ديونًا لكن قبل تنحيه عادت الديون إلى ما كانت عليه


كانت تظاهرات سريعة الاشتعال.. سريعة الانتشار.. سريعة الخراب.. هددت حياة رئيس الجمهورية.. وسخرت من معيشته وأناقته.. وأصابته بعقدة سياسية مؤلمة.. لم تشف منها 5 نظم و17 حكومة توالت على مصر على مدى ما يقرب من 40 سنة.

فى 17 يناير 1977 وقف نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية الدكتور عبد المنعم القيسونى فى مجلس الشعب ليعلن فى بيانه تخفيض الدعم عن 25 سلعة منها الخبز والزيت والشاى والسكر والأرز والبنزين والسجائر للتخفيف من عجز الموازنة استجابة لشروط صندوق النقد الدولى قبل أن يمنح مصر قرضا لا يزيد على 500 مليون دولار.

وفى اليومين التاليين انفجرت التظاهرات فى مصر.. من الإسكندرية إلى أسوان.. لتتحدث عن غضب ساكنى القبور من ترف ساكنى القصور.. ولم ينج السادات من هتافاتها: هو بيلبس آخر موضة واحنا بنسكن عشرة فى أوضة.. بل.. واقتحمت استراحاته الرئاسية.. وكادت أن تطوله وتمسك به وهو يجلس فى أسوان يدخن البايب ويتحدث إلى وزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر.

وأمام التخريب والتدمير والنهب الذى حدث وصف السادات تلك الانتفاضة الشعبية بأنها انتفاضة حرامية.. واتهم اليسار بتدبيرها دون أن ينتبه إلى أن التيارات الدينية ساهمت فى حرق كباريهات شارع الهرم وصرخت بصوت مسموع: لا إله إلا الله السادات عدو الله.

تراجع السادات عن القرارات بعد أن نزل الجيش إلى الشارع معلنا حظر التجوال واعتقال عشرات من الصحفيين والمحامين والنقابيين أودعوا سجنى باب الخلق و أبى زعبل بدعوى انتمائهم إلى أربعة تنظيمات سرية دبرت ما حدث وحرضت عليه وإن برأتهم محكمة أمن الدولة العليا فيما بعد.

أصبحت روشتة الإصلاح بإلغاء الدعم وإنهاء عجز الموازنة روشتة سيئة السمعة.. دواء فيه سم قاتل.. عقدة نفسية حادة أصابت النظم السياسية المتتالية بـ فوبيا الخوف من غضب الشارع، كلما فكرت فى إصلاح اقتصادى خشية تكرار ما جرى.. وكانت النتيجة.. تضاعف ملايين العجز إلى مليارات.. وتراكمت المشكلة طبقات فوق طبقات.. ولجأ كل نظام لعلاج الأعراض بالمسكنات.. فأصبحت الأزمة الواحدة عدة أزمات.

فى ذلك الوقت قدمت لـ«روزاليوسف» تقريرًا نشرته صحيفة هيرالد تربيون التى تصدر فى باريس معبرة عن أهم ما جاء فى صحيفتى نيويورك تايمز وواشنطن بوست تحدث عن متاعب الفقر والبطالة والكساد وسوء الخدمات فى مصر محذرا من تكرار حوادث الشغب التى حدثت فى يناير قبل شهر بالضبط من نشر التقرير.

لكن.. التقرير لم يقدم حلا اقتصاديا وإنما قدم حلا سياسيا.. ألا نجاة للنظام فى مصر إلا بالتعامل مع إسرائيل والتفاوض معها وصولا إلى سلام يخفف من الإنفاق العسكرى ويزيد من فرص الرخاء الاقتصادى ويعالج ما يختفى تحت السطح من مشاكل اجتماعية.

واعتبرت «روزاليوسف» ما نشر إنذارا أمريكيا مقنعا بالاستسلام الفورى والكامل لإسرائيل وردت عليه بقولها: إنه رسالة أخطأت العنوان فلا مصر بلاد تتلقى الوحى من خارجها ولا السادات ممن يقبلون الانذارات.

كان الهدف فضح ما تدبره لنا القوى الصهيونية فى الغرب وكشف المغالطة فى منطقها ورفض إنذارها المهين باسم الشعب المصرى وقائده معا والتأكيد على أن أعلامنا لن تنتكس وأن رقابنا لن تنحنى وأن أقدامنا واقفة على أرض ثابتة وعاشت مصر يا كل الشامتين.

لكن.. المفاجأة.. أن السادات كان يفكر فى هذا الحل.. أن يتفاوض مع إسرائيل.. متصورا أن مصر ستصبح قطعة من الجنة بعد الصلح معها.. وراح يجس النبض سرا برسائل حملها للجانب الآخر قادة مثل رئيس رومانيا نيقولاى شاوشيسكو ومستشار النمسا برونو كرايسكى ونجوم سينما مثل عمر الشريف ورجال أعمال من عائلة كاليب برادهام مؤسس شركة بيبسى كولا.. وكانت الردود إيجابية.. لكن السادات ظل مترددا إلى أن وقعت جريمة سياسية فريدة من نوعها ساهمت فى حسم تردده.

عقب أذان فجر يوم الأحد 3 يوليو 1977 طرق خمسة رجال ينتمون لتنظيم التكفير والهجرة بيت الشيخ محمد حسين الذهبى وزير الأوقاف الأسبق وهم يرتدون ملابس شرطية وتحت تهديد السلاح حملوه فى سيارة فيات صغيرة إلى مكان مجهول مطالبين بفدية 200 ألف جنيه والإفراج عن المعتقلين من التنظيم ونشر كتاب مؤسسه شكرى مصطفى الخلافة على حلقات فى الصحف اليومية.. لكن.. ذلك لم يحدث.. فقتل الشيخ الجليل وعثر على جثمانه حافيا معصوب العينين مصابا بطلقة فى عينه اليسرى وبجانبه نظارته الطبية.

فى ذلك اليوم تأكد السادات أن التنظيمات الدينية التى شجعها للقضاء على اليساريين لن تتردد فى التهامه هو شخصيا.

ومن جديد راوده حلم السلام الذى سيأتى بالرخاء.. وضاعف من جنونه بذلك الحلم أن مساعدات الدول العربية «النفطية» تقلصت وتراجعت وانكمشت بل أصبحت مشروطة بمراجعة المشروعات المقترحة ودراسة جدواها وإمكانية سداد القروض التى تحتاجها.. بل.. طالبت بتغييرات هيكلية فى الموازنة العامة تقضى بتخفيف الدعم وتقليل العجز لتلامس أسلاكا عارية ذكرت السادات بعقدة يناير فانتفض مذعورا.

فى 19 نوفمبر 1977 تحدى السادات قدره وقام برحلته الشهيرة إلى إسرائيل لتنتهى بعد مفاوضات شاقة استمرت شهورا طويلة وجرت فى مدن مختلفة آخرها منتجع الرئيس الأمريكى كامب ديفيد إلى تبادل السفراء بين القاهرة وتل أبيب.. وفى اليوم نفسه قدمت واشنطن معونة سنوية لمصر لا تزيد على 2.1 مليار دولار منها 1.3 مليار دولار معونة عسكرية و815 مليون دولار معونة اقتصادية بما لايزيد على 2 % من إجمالى الدخل القومى المصرى وبمرور السنوات تقلصت المعونة الاقتصادية حتى وصلت إلى 200 مليون دولار جمدت مؤخرا وبقيت المعونة العسكرية على حالها.

تبدد حلم الرخاء ليصبح وهما وسرابا.. وتحول السادات من بطل السلام إلى ضحية السلام.. وعندما حاورت قتلته وعلى رأسهم خالد الإسلامبولى وهم فى القفص ينتظرون بداية محاكمتهم لم ينكروا أن أحد أسباب اغتياله ذهابه إلى إسرائيل وصلحه مع العدو.

ترك السادات مصر مديونة للعالم بنحو 22 مليار دولار راحت تتزايد خلال السنوات العشر الأولى لحكم مبارك حتى وصلت عام 1991 إلى 32.6 مليار دولار بسبب زيادة فاتورة دعم السلع الرئيسية.. فقد انتقلت إليه عقدة يناير التى كان شاهدا عليها ومتورطا فيها.. وأتذكر أننى كنت فى اجتماع مجلس تحرير روزاليوسف عندما اتصل مبارك برئيس مجلس إدارتها عبد الرحمن الشرقاوى ليطلب منه تغطية تظاهرات الطعام بحكمة لا تزيد من حرائقها.

ومثل السادات عالج مبارك الأزمة الاقتصادية علاجا سياسيا بأن شارك عسكريا فى حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) بقوات قوامها 400 دبابة و35 ألف جندى من اللواء 20 صاعقة والفرقة الثالثة الميكانيكية والفرقة الرابعة المدرعة ووحدات الإسناد الإدارى والفنى.. وقد بدأت طلائع تلك القوات فى الوصول إلى السعودية فور إعلان البيان الختامى للقمة العربية التى عقدت فى القاهرة يومى 9 و10 أغسطس بعد أسبوع واحد من الغزو العراقى للكويت.

وما أن انتهت الحرب حتى راحت كثير من الدول العربية والغربية تتنازل عن ديونها لتنخفض بنحو 27 مليار دولار وليصبح كل ما على مصر للعالم الخارجى لا يزيد عن 5.4 مليار دولار.. لكن.. مبارك لم يستغل هذه الفرصة الثمينة فى معالجة الخلل فى الهياكل الاقتصادية.. فقد كانت عقدة يناير لا تزال ضاغطة.. كما أن تحالف الفساد بين السلطة والثروة جعله غير قادر على مواجهة الشعب بإجراءات مؤلمة فى وقت تحولت فيه القطط السمان إلى ديناصورات وحيتان.

وكانت النتيجة المتوقعة العودة للاقتراض داخليا وخارجيا حتى وصلت ديون مصر للخارج إلى نفس الرقم الذى كانت عليه قبل حرب الكويت لتصل فى نهاية حكم مبارك إلى 36.5 مليار دولار.

وفى الوقت نفسه استخدم مبارك علاقته الشخصية بحكام السعودية والخليج فى الحصول على منح مجانية لشراء ما يلزم من قمح وزيت وسكر لتسكين الأزمة بما يشبه التسول الخفى.

وأذكر أننى عندما فجرت قضية ممدوح الليثى التى نشرت تحت عنوان فضيحة على النيل إننى جئت بسيرة عبد العزيز الإبراهيمى (صهر الملك فهد وشقيق صغرى زوجاته) وجدت من يهدد عائلتى بالتشويه بمية النار بجانب شتائم ليلية فى التليفون وقضايا لا مبرر لها سوى التشتت فى المحاكم.. وأمام تجاهل كبار المسئولين فى الدولة الذين لجأت إليهم لشكواى لم أجد مفرا من نشر كتاب يحمل نفس العنوان: فضيحة على النيل فتحت فيه كل الملفات الخفية للملك فهد ليصبح طرفا فى المشكلة ويتدخل لحسمها بعيدا عن الثعالب الصغيرة.. لكنى.. فوجئت بالدكتور أسامة الباز ينقل لى تهديد الرئيس بأنه سيرفع ضدى قضية يتهمنى فيها بإهانة رئيس دولة صديقة هو الملك فهد.. أراد مبارك أن يقدم رقبتى على طبق من كريستال لإنقاذ ماء وجهه أمام حاكم صديق ينقذه وقت الشدة دون أن يفضحه.

كانت سياسة مبارك التسويف فى مواجهة الأزمات وتأجيل حلها لتصبح كرة نار تلقى فى حجر من يخلفه.. ولأنه بقى فى الحكم ثلاثين سنة فإن الخلية السرطانية أصبحت مئات الخلايا القاتلة التى انتشرت فى جسد الاقتصاد المصرى لتزيد من عجز الموازنة والبطالة والدين المحلى والخارجى ولتخفض من معدل الادخار طبقا لمبدأ لا يصلح إلا لتدخين الحشيش: «احيينى النهارده وموتنى بكره» خاصة أن مبارك لن يكون مسئولا عن بكره.

وزادت الأحداث السياسية التى وقعت فى السنوات التالية لتنحى مبارك من ضعف المؤشرات الحيوية للاقتصاد المصرى.. بل زاد عليها انهيار فى موارد النقد الأجنبى «بسبب تراجع السياحة وانخفاض الصادرات وتوقف تحويلات العاملين فى الخارج وانكماش إيرادات القناة» مما جعل الطريق الوحيد لخروج المريض من غرفة الإنعاش هو القبر.

وكان يمكن للنظام القائم أن يسير فى نفس الطريق ويرضى الناس لمدة عام أو عامين.. لكنه.. كان سيصل بعد ذلك إلى ما يمكن وصفه بالموت إفلاسا.. فلم يكن أمامه سوى التدخل بجراحة صعبة وخطرة للإنقاذ.. فكانت القرارات الأخيرة التى خفضت مدخرات القادرين إلى الثلث وزادت من تكلفة المعيشة ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبلها.

لكن.. تبقى مجموعة من علامات الاستفهام يجب حسمها:

أين أنفقت الدولة نحو 80 مليار دولار حصلت عليها من دول عربية بجانب مدخرات مؤسسات بعينها يضاف إليها ما لدى البنك المركزى من احتياطى؟.. ولماذا لم تستغل قبل إنفاقها فى تحرير سعر الصرف وقتها؟

هل ستكون الحكومة قدوة للشعب فى التقشف والتحمل خاصة أن حجم العاملين فيها يتجاوز الخمسة ملايين موظف ولانجد جدية فى تخفيض إنفاقها اللهم إلا قراراً مبهماً من رئيسها إلى الوزراء بتخفيض الإنفاق بنسبة 10 ــ 15% دون أن يحدد بنود التخفيض ودون أن يشكل لجنة تتابع تنفيذ قراره الذى بدا لنا مجرد قرار إدارى مثل عشرات القرارات الإدارية التى صدرت مثله ولم تنفذ.

هل سيكون المحافظ الحالى للبنك المركزى هو آخر محافظ يأتى من البنوك التجارية ليصحح مسار اختياره ليكون رجل اقتصاد لا رجل بنوك.. فوظيفة البنك المركزى قبل مراقبة البنوك هى إدارة الاقتصاد؟

كيف ستواجه الأجهزة الرقابية المختلفة تيار الفساد المتوقع والمتزايد بسبب زيادة الأسعار ونقص القوة الشرائية للدخول؟

ما هى التفاصيل الكاملة لشبكة الحماية الاجتماعية التى يواجه بها غير القادرين ما حدث؟

هل تملك الحكومة خطة متكاملة لضمان بيع وشراء الدولار فى البنوك بحرية تضمن عدم العودة من جديد للسعرين.. سعر فى البنك وسعر فى السوق لنجد أنفسنا فيما كنا عليه رغم ما دفعنا من ثمن وما تحملنا من معاناة؟

هل تستفيد الحكومة من سعر العملة المتدنى فى زيادة الصادرات وتدفق السياح أم أن وزير الصناعة سيكتفى بالتصوير فى معارض بيع السلع عند مستوى سعر أقل وهى معارض مؤقتة ودعائية لن تستمر أكثر من يومين؟

والأهم: هل تملك الحكومة القدرة على رعاية الاقتصاد فى فترة النقاهة الصعبة بعد أن أجرت له العملية الخطرة؟

مؤكد أن الحكومة كالعادة ستضع فى أذن طينا وأخرى عجينا وسترفع شعار «أن السكوت من ذهب».