عادل حمودة يكتب: "فاتورة السلطة المنفردة والمتعالية".. مصر تسدد فواتيرها القديمة الثقيلة بعد طول تأخير
كسر قواعد لعبة السلطة فى مصر
بعد سنوات طويلة من المماطلة والتسويف والإنكار تجد مصر نفسها مجبرة على سداد فواتيرها السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية المتأخرة عليها دفعة واحدة مع الفوائد والغرامات.. ولا مفر من السداد مهما كانت المعاناة.. فالبديل إما أن تفقد تماسكها.. أو تفرط فى كرامتها.. وبحكم مهنتى كنت حاضرا وشاهدا على بدايات ما وصلنا إليه.
■ حلقة ضيقة حول الرئيس تحرق من يقترب منها عزلت
■ نجحت حاشية مبارك فى عزله ساعات الليل حتى لا يعرف بخبر وفاة حفيده إلا فى صباح اليوم التالى
■ خشينا على السيسى من الوقوع فى نفس المطب لكن مؤتمر الشباب فى شرم الشيخ يطفئ النار
بسرعة فائقة تتكون حول الرئيس حلقة من نار فور وصوله إلى الحكم.. تهدد كل من يحاول الاقتراب منه بالاحتراق أو التشويه أو الإقصاء.. ولا ينفذ منها أحد إلا بسلطان.. ليجد الرئيس نفسه خلال شهور قليلة فى عزلة تامة.. يسمع بأذن مشعلى النار.. ويقرأ بعيونهم.. ويحكم بمشيئتهم.. لكنه.. وحده يتحمل أخطاءهم.
وجدت هذه القاعدة طريقها إلى السلطة فى مصر منذ أن وصل إليها ثوار يوليو.. قاعدة سيطرة الدائرة القريبة من الرئيس على الرئيس إلى حد عزله عن الحقيقة حتى يستيقظ ذات صباح على كارثة أو مصيبة.. لنسمع جملة تكررت فى النهايات المأساوية لحكم جمال عبدالناصر وأنور السادات وحسنى مبارك: أن المشكلة ليست فى الرئيس وإنما فى حاشية الرئيس.
لقد نجحت حاشية مبارك -وقد عشت تجربته كاملة - فى عزله ساعات - الليل حتى لا يعرف بخبر وفاة حفيده إلا فى صباح اليوم التالى بحجة أن يعرف النوم طريقه إلى جفونه قبل أن يتلقى الصدمة.. قطعوا عنه أجهزة التليفون والتليفزيون دون أن ينتبه أحد لخطورة ما حدث.. إن الحاشية التى عزلته ليستريح يمكنها أن تعزله ليستقيل.
وفى السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك كان كبير الحاشية ورئيس الديوان زكريا عزمى يحرص على ألا ينقل إليه إلا الأخبار المفرحة والنكات المضحكة والتقارير المريحة فجاء إليه بنجوم الكوميديا لتسليته وأبعد عنه المثقفين والكتاب فلم يعد يلتقى بهم أو برؤساء التحرير الذين لا يأتى من ورائهم إلا الهموم والمتاعب وما يكدر مزاجه.
وأذكر فى آخر اجتماع مع رؤساء تحرير الصحف المختلفة فى شتاء 2005 أنه سألنى بطريقته الخاصة فى الكلام: أنت بتعط فين؟ طلبناك فى البيت والمكتب والموبايل ولم نجدك؟.. ولم يكن ذلك صحيحا.. فالحاشية ضللته وكذبت عليه لتبعد عنه شخصا ربما كشف حقيقة تزعجه.
وقد خشينا على النظام القائم من الوقوع فى نفس المطب وتكرار ذات الخطأ.. وكانت هناك أعراض توحى بهذا الخطر.. لكن.. الرئيس تنبه إليه.. ودعا إلى مؤتمر شرم الشيخ غير الشباب (300) شخصية مؤيدة ومعارضة ومحايدة ليستمع إليها وقدمت جلسات على منصات الحوار بينما جلس هو فى صفوف الجمهور.. فى حالة مختلفة عما كان سائدا من قبل.. ليطفئ بنفسه دائرة النار التى راحت تشتعل حوله.. قبل أن تحرق الجميع كما حدث فى جمهوريات الحكم السابقة.
ولابد.. أن الرئيس اكتشف أن كثيرا من الشخصيات التى وصفتها التقارير بالنفور لا تقل وطنية عن غيرها.. ولعل استجابته لمطالبها أكبر دليل على ذلك.. فقد وافق على تشكيل لجان تنفذ توصيات المؤتمر لمراجعة موقف الشباب المحبوسين.. وإعادة النظر فى قانون التظاهر.. والإسراع بإصدار التشريعات الإعلامية.
وفى اجتماعه المغلق مع مستثمرى شرم الشيخ نفى الرئيس بطريقة غير مباشرة شائعات التأميم التى بدأت همسا ثم تضاعفت صخبا مؤكدا أن ديننا وطبائعنا وأخلاقنا تمنع ذلك.. ووعد بدراسة الفيزا الإلكترونية التى تمنح للسائح الذى يحمل فيزا الشنجن عبر الإنترنت.. ووعد بدراسة القانون رقم (13) الذى يمنع مشاركة أجنبى فى استثمارات توجد على أرض سيناء.
وحسب ما عرفت فإن شخصيات إعلامية تتسم كتابتها بالغضب رفضت دعوة الحضور متصورة أنها ستكون جزءًا من ديكور سياسى ودعائى سينتهى بنهاية الحدث.. وأتصور أنها شعرت بخطأ فى سوء التقدير بعد أن وجدت تجربة مختلفة.
ولم يكن المؤتمر نوعا من الدفاع المسبق ضد دعوة (11 / 11) فالمؤتمر كان مقررا له شهر سبتمبر لكن.. سفر الرئيس إلى الأمم المتحدة أجله إلى الشهر التالى.. والمؤتمر الذى عقد بمناسبة مرور 150 سنة على البرلمان فى مصر.
وعادة ما كان الحوار بين الرئيس والشباب فيما سبق نوعا من المسرحيات المعدة سلفا.. يعاقب فيها من يخرج عن النص.
لقد فقد السادات أعصابه فى حواره مع طلبة جامعة القاهرة عندما تحدث رئيس اتحاد الطلاب عبد المنعم أبوالفتوح عن رجال الدين الذين ينافقون الرئيس.. أعترض الرئيس غاضبا على ما سمع قائلا: أنا لا أسمح بالنفاق ولو كنت أسمح به لما قبلت بالحوار بينى وبينكم.. وعندما قاطعه أبو الفتوح صرخ فيه: قف مكانك.. الزم مكانك.. وتعلم حدود الاحترام.
وسبق وأنا فى أحد معسكرات منظمة الشباب أن تجرأت وأنا طالب فى الثانوى وسألت عبدالناصر: كيف تربى بناتك؟ وجاءت إجابته هادئة: نحن أسرة متوسطة بكل ما فيها من أصول وتقاليد.. لكن.. ما إن انتهى اللقاء حتى وجدت تهديدا من كل قيادات المنظمة وعلى رأسهم الدكتور حسين كامل بهاء الدين أمين الشباب وقتها الذى وصف ما فعلت بتجاوز حدود الحوار مع مقام الرئيس قائلا: المرة القادمة لا تتحدث إلا بعد أن تستأذن منا مسبقا.
لكن.. ذلك لم يحدث فى حوار جلسات مؤتمر شرم الشيخ.. خاصة فى جلسة الإعلام وتأثيره على الرأى العام.. فقد تحدث إبراهيم عيسى بجرأة عن الدول الثلاث المستبدة الباقية فى العالم التى تسجن الصحفيين بعقوبات سالبة للحريات مبديا المه أن تكون مصر واحدة منها.. وعندما دخل فى مناقشة حادة بينه وبين متحدث آخر هو إبراهيم الجارحى ضحك الرئيس وضرب كفا بكف موحيا بتعجبه من أن يحدث ذلك بين أصحاب الرأى.. فعلق إبراهيم عيسى قائلا: إنها طبيعة الحوار بين الإعلاميين.. الاختلاف دون بود واحترام المتبادل بين الأطراف المختلفة حتى لو بدا الحوار متجاوزا.
ولاشك أن جرأة الحوارات التى سادت جلسات المؤتمر ألغت الاتهام المسبق بأننا سنكون أمام مسرحية مكتوبة سلفا.. وهو اتهام متوقع بعد أن شاهدنا هذه المسرحيات فى نظم سابقة.. ففقدنا الثقة فيما نسمع من مناقشات وما نتابع من مؤتمرات.. بما فى ذلك المؤتمرات الصحفية التى كانت أسئلتها تكتب سلفا فى مكتب وزير الإعلام الذى كان يختار بدقة من يوجهها للرئيس.
ما سمعناه من انتقادات للحكومة فى شرم الشيخ لم يسقط الدولة ولم يهز أركانها بل على العكس ضاعف من متانتها وأثبت قدرتها على التحمل ودعم وسائلها فى التواصل.. بل.. إننى عرفت أن منظمى المؤتمر كانوا مستعدين لمناقشة فيديو سائق التوكتوك لو تحدث عنه أحد المشاركين.
إن الصراحة والحقيقة والجرأة كشافات قوية تكشف للسلطة السياسية مطبات الطرق التى تسير فيها ولو انطفأت فإن النتيجة صاعقة.. هزيمة يونيو التى أجهزت على نظام عبدالناصر.. أو جريمة المنصة التى غيرت نظام السادات بالدم.. أو ثورة يناير التى أطاحت بنظام مبارك.
غياب النور عن السلطة السياسية يفقدها البصر بعد البصيرة.. ويشعرها بقوة لا تملكها.. وبشعبية لا تتمتع بها.. ويوقعها فى أخطاء فاحة لا تنتبه إليها.. ويجهز عليها فى لحظات تشعر فيها بالثقة.. والنشوة.
وفى جلسة الإعلام التى نالت كثيرا من اهتمام شبكات التواصل الاجتماعى حسم الجدل المتوتر على المنصة كلمات حكيمة جاءت على لسان مكرم محمد أحمد كبير الصحفيين.. حسم خلافات فى المفاهيم التى أشعل غيابها حروبا أهلية استخدمت فيها الكلمات والكاميرات والتعليقات.
أكد شيخ المهنة أن انتقاد النظام الحاكم ليس منحة من أحد وإنما جاء بعد عذاب مئات الصحفيين زجا فى السجون لنصل إلى الحرية التى نتمتع بها الآن.. لكنه.. فرق بين الحرية والفوضى.. وركز على التنوع دون تمرد.. ودافع عن الرأى الملتزم بالحرفية.
وأضاف: إن الصحفى ليس زعيما سياسيا وليس محرضا للجماهير.. ولو أصر على ذلك فليذهب إلى أقرب حزب.
وانتقد الفضائيات التى يملكها ماليون من أصحاب المصالح (غير الإعلامية) ودون أن يوجد لديهم ميثاق شرف يحكمهم، كما هو الحال فى المؤسسات الصحفية التى يحاسب العاملون فيها بقوانين نقابية لا يوجد مثيل لها فى الفضائيات على ما تتمتع به من مساحات شاسعة فى التأثير.
لقد حسم جيل سابق ما اختلفت عليه أجيال حالية.. ليثبت أن الخبرة والحكمة والموعظة التى وصل إليها الكبار يصعب الاستغناء عنها بإقصائهم عن المشهد السياسى حسب قاعدة شهيرة فرضتها النظم التى حكمت مصر منذ ثورة يوليو.
لقد سمعت من إحسان عبد القدوس أن جمال عبد الناصر كان يشعر بالامتنان لدوره فى التمهيد للثورة.. فقد خلخلت حملته الصحفية الشهيرة عن الأسلحة الفاسدة النظام الملكى.. كما كانت ساهمت فضائح الطبقات الحاكمة التى تنشرها روز اليوسف فى الإجهاز على ما تبقى من النظام الراحل.. ليصبح حكم مصر مثل ثمرة ملقاة فى عرض الطريق تحتاج لجهد بسيط لالتقاطها.. وهو ما حدث.
لكن.. لم يتردد عبد الناصر فى سجن إحسان عبد القدوس عندما انتقد مجلس قيادة الثورة فى مقال شهير نشره بعنوان «الجمعية السرية التى تحكم مصر» متناسيا دوره فى الثورة وغافلا عن أهمية النقد فى تصحيح مسارها.
وكان ما جرى لإحسان عبد القدوس بداية قاعدة سياسية سيطرت على لعبة السلطة فى مصر.. قاعدة تدعو الحاكم للتخلص من كل الذين ساعدوه فى الوصول إلى الرئاسة.. بما فى ذلك زملاؤه من الضباط الأحرار.. فقبل أقل من ستة شهور على قيام الثورة اعتقل ضباط المدفعية وحقق معهم وحكم على بعضهم أحكاما مشددة قبل التخفيف عنهم وتعيينهم فى مناصب مغرية.. وبعد شهور أخرى تكرر المشهد نفسه مع ضباط الفرسان (المدرعات ).
ولم يبق من مجلس قيادة الثورة إلا الذين استسلموا لما يقول عبد الناصر وتعايشوا مع ما يفعل دون لوم أو انتقاد.
ولم يكن إحسان عبد القدوس وحده الذى سجن.. سبقه مصطفى وعلى أمين.. ولم يكن وحده الذى أبعد عن دائرة الحكم.. سبقه محمد التابعى وكامل الشناوى وحلمى سلام وجلال الدين الحمامصى وغيرهم من كبار الكتاب خشية عدم السيطرة عليهم ليحل محلهم جيل جديد من الصحفيين يكون ولاؤهم بالكامل للنظام الجديد وتكون السيطرة عليهم ممكنة ومحكمة.
لكن.. من حسن حظ عبد الناصر أن الجيل الجديد الذى دعاه للوثوب على الجيل القديم كان بحكم ليبرالية النظام الملكى موهوبا وضم كتابا يستحقون الفرصة التى منحت لهم مثل محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم وصلاح حافظ ويوسف إدريس وصلاح جاهين.. فلم نشعر بالفراغ الذى تسبب فيه غياب الكبار.
لكن.. بعد تأميم الصحافة وتحكم الدولة فى الإذاعة والتليفزيون تراجع عدد الموهوبين فى المهنة فلجأ النظام إلى شباب لم يستكمل أدواته بعد ليحل محلهم فى تصور غير دقيق بأن السيطرة على وسائل ووسائط الإعلام الخاص تبدأ بالتخلص من الكبار ومنح فرص أكبر لشباب لا يتمتع بعضهم بالخبرة الكافية.. فكان انصراف الجمهور عنهم أكثر من إقباله عليهم.
وأمام هذه الأزمة وجدنا كبيرا مثل مكرم محمد أحمد يعيد صياغة المشهد المضطرب ويعطى ما للمهنة للمهنة وما للسلطة للسلطة.. ليؤكد أن ما ليس له كبير فليبحث له عن كبير.
أما القاعدة الأخيرة التى استقرت فى لعبة السلطة حسب ما قرأت فى مذكرات الكاتب الصحفى عبد الستار الطويلة: فهى إن السلطة عندما تريدك تقلب الأرض عليك حتى تجدك ولا يهمها روتين ولا مصاعب ولا شىء على الإطلاق وعندما لا تكون فى حاجة إليك لا تسأل عنك على الإطلاق مهما كنت قد أديت لها من خدمات من قبل.. السلطة كائن لا يرحم.. وليست لديه عواطف.
ويروى عبد الستار الطويلة أنه قابل الدكتور فؤاد مرسى وزير التموين الأسبق وكان السادات قد اختاره واحدا من ثلاثة يعيدون تنظيم الاتحاد الاشتراكى أى أنه رجل قريب من السلطة ولاحظت أنه متضايق ولما سألته عن السبب عرفت منه فى غضب أن الرئيس لم يوجه إليه دعوة لحضور حفل زواج ابنته الكبرى فقلت له فى دهشة: يا دكتور أنت الذى علمت أجيالا معنى السلطة وموقفها من التحالف مع القوى الأخرى وأهدافها.. هل تتصور أن السادات لأنه اختارك فى اللجنة الثلاثية أصبحتما صديقين وبالتالى يعزمك على فرح ابنته؟ إن السلطة يا دكتور تتعاون معك مضطرة.. لكنها.. لا تقربك منها كصديق وتدعوك لأفراح الأنجال.. أنت غريب وستظل غريبا بالنسبة لها ولمستواها وعاداتها وتقاليدها وخصوصياتها.
وسمعت من فتحى غانم ما هو أصعب: إن عبدالناصر كان يعامل بتجاهل كثيرا ممن ساعدوه فى الوصول إلى الحكم وكأنه لا يعرفهم أو كأنه لم يرهم من قبل وكأنه يخشى أن يذكروه بما كان عليه قبل أن يصبح رئيسا.
لكن.. يبدو أن النظام القائم سعى بما حدث فى مؤتمر شرم الشيخ إلى كسر هذه القواعد المزمنة فى لعبة السلطة.. لكن.. هل سيستمر فى التغيير الذى حدث أم أنه سيكون تغييرا مؤقتا ينتهى بنهاية الأزمات الصعبة التى يمر بها؟