عادل حمودة يكتب: "فاتورة واشنطن".. مصر تسدد فواتيرها القديمة الثقيلة بعد طول تأخير

مقالات الرأي



■ جملة واحدة تنتظرها الولايات المتحدة من مصر لترضى عنها: نقبل المصالحة مع الإخوان

■ فى السياسة كما فى الحياة: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها

■ بسقوط الرئاسة الإخوانية بعد الثورة الشعبية فى يونيو سقطت أيضا السيطرة الأمريكية على الإرادة المصرية.. تعاملت القاهرة مع واشنطن بنفس القواعد التى تتعامل بها دون تمييز مع موسكو وبكين وبرلين وباريس وغيرها من عواصم العالم

بعد سنوات طويلة من المماطلة والتسويف والإنكار تجد مصر نفسها مجبرة على سداد فواتيرها القديمة السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية المتأخرة عليها دفعة واحدة مع الفوائد والغرامات.. ولا مفر من السداد مهما كانت المعاناة.. فالبديل أن تفقد تماسكها.. أو تفرط فى كرامتها.. وبحكم مهنتى كنت شاهدا على بدايات ما وصلنا إليه

كانت الرحلة إلى مزرعة (رنش) الرئيس الأمريكى جورج بوش (الابن) طويلة ومرهقة ومؤلمة ومحبطة.

طرت من القاهرة إلى فرانكفورت.. ومنها إلى هيوستن (عاصمة تكساس) وبقيت فيها أربعة أيام قبل أن أركب الطائرة الرئاسية مع مبارك إلى مدينة صغيرة تسمى واكو.. وبينما حملت طائرتان هليكوبتر الرئيس ورجاله وابنه جمال إلى المزرعة فى نصف ساعة وصلت إليها فى أربع ساعات.. قضيتها داخل سيارة مع رؤساء التحرير.

كان اختيار المزرعة مهينا.. لتبدو الزيارة شخصية.. وليست رسمية.. كما أن الزيارة بدت أطول من المعتاد.. ستة أيام.. استهلكها مبارك فى استشارات طبية.. ولقاءات مع جاليات يهودية.. ولم تخل من المقال الذى اعتادت ميشيل دان (الباحثة فى معهد كارينجى) نشره فى صحيفة واشنطن بوست كل زيارة.. بنفس العنوان: رجلنا فى القاهرة.. وتهاجم فيه الإدارة الأمريكية لسكوتها على تجاوزات مبارك فى حكم مصر.

بدت استراحة بوش متواضعة.. مبنى حجرى متهالك.. وسط حقول مفتوحة بلا أسوار.. وكانت المعاملة التى قوبلنا بها هناك سيئة.. وقفنا فى الهواء على أقدامنا فى المنطقة الخلفية للمزرعة حيث توضع الكراكيب (كراسٍ مكسورة وماكينة جرى صدئة وأكوام من أكياس القمامة السوداء) بجانب حمام لشخص واحد مخصص للحراسة من مشاة البحرية الأمريكية.

انتظرنا خروج الرئيسين نحو ساعتين.. دون أن نجد مكانا نجلس عليه.. أو حماما نستعمله.. أو كوبا من القهوة يدفئ البرد الذى يحاصرنا من جميع الجهات.. وكنا أكثر كرما مع الصحفيين الأمريكيين الذين عادوا إلى هيوستن على طائرة الرئيس.. فقد قدمنا لهم طعاما شهيا استرخوا بعده على مقاعد وثيرة.

ولم تكن معاملة مبارك بأفضل منا.. فعندما التقينا به فى إحدى قاعات فندق إنتركونتننتال بعد عودتنا إلى هيوستن بدا متجهما.. يجيب عن أسئلتنا على غير عادته بصعوبة.. وكان كل ما عرفناه منه أنه لن يعود إلى الولايات المتحدة مرة أخرى إلا بعد أن تنتهى رئاسة بوش.. فما طلب منه يستحيل الاستجابة إليه.. لكنه.. لم يتورط فى سرد التفاصيل.

وحسب ما عرفت فيما بعد فإن بوش طلب من مبارك تنازل مصر عن قطعة أرض فى شمال سيناء لتضم إلى غزة ولتصبحا معا الدولة الفلسطينية حسب الرغبة الإسرائيلية على أن تحصل مصر فى المقابل على قطعة أرض فى صحراء النقب طبقا لخرائط مبادلة الأراضى التى وضعتها إسرائيل.. لكن.. مبارك رفض العرض.. ففتح بوش ملفات حقوق الإنسان واضطهاد الأقباط وتزوير الانتخابات وسجن سعد الدين إبراهيم.. فلم يكمل مبارك طعامه وتحمل على مضض المباحثات حتى نهايتها.

وتضاعف الحرج الذى وجد مبارك نفسه فيه عندما أعلن بوش فور انتهاء المباحثات عن ضمانات أمريكية بلا حدود لمبادرة رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون للانسحاب من غزة مطلقا يده فى الأراضى الفلسطينية ليقيم عليها ما يشاء من مستوطنات ومعسكرات.

كان ذلك فى عام 2004.. وبعد أربع سنوات من مقاطعة الزيارة السنوية لواشنطن التقى بوش مبارك فى شرم الشيخ على هامش المنتدى الاقتصادى العالمى (ديفوس) دون أن يكف عن تعامله بغطرسة الكاوبوى القادم من الغرب الأمريكى.

تابعت مباحثات الرئيسين التى جرت فى إحدى قاعات الدور الأرضى لفندق فور سيزونز الذى كنت أنزل فيه.. وسمعت من أحد رجال مبارك: أن الرئيس اعترف بأنه تحمل من بوش الكثير.. لكنه.. لم يشأ أن يرد عليه بنفس أسلوبه بدعوى أنه كان ضيفا علينا.

لكن.. تكرار الإهانة لم يكن له فى ذمة المحللين السياسيين النافذين لما يجرى فى كواليس الحكم سوى تفسير واحد:

إن مبارك الذى تعود أن ينفذ كل ما تطلب منه واشنطن لم يعد قادرا على تلبية رغبات جديدة تتجاوز كل الحدود الوطنية.. وتهدد وجوده الداخلى.. وهو وجود مشوب بالقلق والاضطراب.. على أنه مادام قد فقد مرونته فى الاستجابة فإن بقاءه فى الحكم أصبح أمرا مشكوكا فيه.

ويصعب إنكار أن المخابرات الأمريكية وضعت مبارك تحت ضرسها بمجرد أن فتح الطريق أمامه لتولى رئاسة مصر فى أعقاب اغتيال السادات.

فى اليوم التالى لإعلانه رئيسا كشف الصحفى الأمريكى جاك اندرسون فضيحة شركة إيتسكو التى أسسها حسين سالم لنقل أسلحة أمريكية إلى الشرق الأوسط بتسهيلات من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مقابل تحويل نسبة من الأرباح لشراء أسلحة لمقاتلى نيكاراجوا التى تدعمهم الوكالة بدعوى محاربة الشيوعية.

وتكون مجلس إدارة ايتسكو من شخصيات مصرية مؤثرة ونافذة وذات صلة وثيقة بمبارك منهم منير ثابت (شقيق زوجته) مدير مكتب المشتريات العسكرية فى واشنطن الذى تورط فى صفقات وعمولات مع حسين سالم.

وحسب ما نشر هيكل فإن أندرسون أشار إلى برقية من وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 2 يوليو 1979 تؤكد: أن الرئيس السادات كلف حسنى مبارك بالتحقيق فى الواقعة.. لكن.. السفارة الأمريكية فى القاهرة ردت فى اليوم التالى ببرقية تقول فيها: إن مصادرها أكدت لها أن نائب الرئيس سوف يغطى على التحقيق لأن منير ثابت هو شقيق زوجته وأن مبارك ساعد على ترقيته من منصب مساعد الملحق العسكرى فى واشنطن إلى منصب مدير مكتب المبيعات العسكرية الأمريكية لمصر.

وحسب المصدر نفسه فإن أندرسون أكد على شراكة بين مبارك وحسين سالم فى صفقات سلاح تتم فى الغرف الخلفية وأن وكالة المخابرات الأمريكية على علم بالتفاصيل بل إنها تدخلت فى بعض اللحظات للتسهيل والتشهيل.

وهكذا.. ذبحت الأجهزة الخفية القطة حسب التعبير الشائع لمبارك منذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة ليصبح تحت سيطرتها تماما.. منفذا كل ما ترسم من سياسات وتعليمات.. ومن جانبه مشى مبارك على العجين الأمريكى بخفة ورشاقة دون أن يفسده.

شارك فى حرب تحرير الكويت.. ودفع الفلسطينيين للتفاوض مع الإسرائيليين.. وترك مناورات النجم الساطع تعبر عن نفسها فى بحارنا وعلى شواطئنا.. ووافق على بيع أسلحة للمقاتلين الأفغان ليحاربوا بها القوات السوفيتية المحتلة لبلادهم.. وقدم معلومات أمنية شديدة الأهمية عن هجمات سبتمبر قبل وقوعها.. لكن.. قبل ذلك كان مستعدا لتنفيذ عملية لقلب نظام الحكم فى إيران بعد الثورة الخومينية.

سمعت من اللواء عبد السلام المحجوب أنه وهو مسئول الخدمة السرية فى المخابرات العامة: إنه شارك بصفته الرسمية أجهزة مخابرات عربية وأمريكية لغزو إيران بتهريب مجموعات مسلحة عبر ممر هرمز (على شواطئ سلطنة عمان) إلى طهران لتساعد القوى المعارضة فى الداخل على إسقاط سلطة آيات الله ووضعها بين يدى شهبور بختيار آخر رئيس حكومة فى عهد الشاه.

لكن.. المحجوب بعد أن عاين مسرح العملية على الطبيعة وأدرك ضعف قوى المعارضة والتقى مدير وكالة المخابرات المركزية أكد أن الخطة التى رسمت للغزو ستفشل ولن يكون نتيجتها سوى فضيحة سياسية ومخابراتية مدوية.

وعندما جاء أوباما إلى القاهرة ليلقى خطابه الشهير فى جامعة القاهرة يوم 4 يونيو 2009 استقبله مبارك فى قصر القبة وهو فى حالة نفسية وصحية سيئة بسبب وفاة حفيده محمد بمرض تفجر شرايين المخ عجز أطباء العالم عن إنقاذه منه.

وحسب ما سمعت من عمر سليمان فإن مبارك لم يكن يرى مبررا لاستقبال أوباما فهو لم يأت ليلقاه وإنما لإلقاء خطابه.. وبصعوبة أقنعوه بدعوته على إفطار شرقى.. والترحيب به على أن يتولى عمر سليمان وأحمد أبو الغيط (وزير الخارجية) مهمة المباحثات.. ولم ينطق مبارك فى هذه الجلسة سوى كلمات تعد على الأصابع.. ففقدت كيمياء التواصل بينه وبين أوباما.

وفى 17 أغسطس التالى عاد مبارك ليحج من جديد فى واشنطن.. وبعد أقل من شهر كانت زيارته الأخيرة التى جاء إليها هو والرئيس الفلسطينى محمود عباس والعاهل الأردنى الملك عبد الله بن الحسين ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو.. وفى إحدى قاعات البيت الأبيض أدت هذه الشخصيات أدوارا متواضعة فى مسرحية فاشلة من مسرحيات السلام أخرجها أوباما ولم تنل منا جمهور الحضور إعجابا أو تصفيقا.

والتقط مصور البيت الأبيض صور أبطال المسرحية وهم يتجهون نحو قاعة العرض وبدا مبارك متراجعا بسبب متاعب الركبتين التى كان يعانى منها.. لكن.. رئيس تحرير الأهرام أسامة سرايا استخدم فن الفوتو كولاج ونقل مبارك من المؤخرة إلى المقدمة ونشر الصورة المفبركة.. ورغم الضجة التى انفجرت بعد تزوير الصورة فإن مبارك بدا سعيدا بما حدث.

وفى تلك الزيارة تأخر أوباما فى استقبال مبارك 20 دقيقة بقى فيها مبارك جالسا فى قاعة تضم رموز البطولة الأمريكية فى البيت الأبيض.. وجاء التبرير ليزيد من الإهانة.. خطأ من مسئول البروتوكول الذى لم يبلغ الجانب المصرى بتأجيل الموعد.

لكن.. التبرير الخفى سرعان ما أصبح رفضا علنيا لبقاء مبارك فى الحكم بعد ثورة يناير.. فقد طالبه أوباما بالتنحى الآن.. وعندما سئل ما المقصود بـ الآن؟ أجاب: الأمس.. ما يعنى أن القرار اتخذ قبل انفجار التظاهرات فى مصر.

وبحسب مصادر متعددة ومعلنة فإن واشنطن ضاعفت من اتصالاتها بتنظيم الإخوان فى الوقت نفسه الذى خرج فيه مبارك مصدوما ومتألما من مزرعة بوش.. وبقبول الإخوان ما رفض مبارك (خاصة الموافقة على دولة فلسطينية تكتفى بغزة وتستولى على جزء من شمال سيناء يبدأ من رفح المصرية) أصبحت الجماعة فرخة بكشك على مائدة السياسات الأمريكية التى كانت تعتقد أنها تمثل الإسلام الديمقراطى المعتدل الذى ستواجه به الإسلام المقاتل المنتشر مثل السرطان على خريطة الدنيا.. وكانت الخطوة الأولى فى تلك المؤامرة إعلان الإمارة الإسلامية فى العريش.. وراحت الأسلحة تتدفق إلى هناك وتسلل عدد كبير من الخبراء الإيرانيين عبر السودان لتدريب الإرهابيين على التفجيرات.. وكان نجاحهم الأول تفجير خط الغاز.

وبسقوط الرئاسة الإخوانية بعد الثورة الشعبية فى يونيو سقطت أيضا السيطرة الأمريكية على الإرادة المصرية.. تعاملت القاهرة مع واشنطن بنفس القواعد التى تتعامل بها دون تمييز مع موسكو وبكين وبرلين وباريس وغيرها من عواصم العالم.. علاقات مبنية على مصالح متبادلة دون خضوع أو خنوع أو ركوع.. لم تبلغ القاهرة واشنطن بالهجمات الجوية على قواعد داعش فى ليبيا.. ولم تستشرها فى بناء مفاعلات الضبعة.. وأخفت عنها صفقات الأسلحة مع الدول الأخرى.. والأهم.. أنها رفضت المصالحة مع الإخوان.

لقد كان التحرر من التبعية الخارجية حلما طالب المصريون بتحقيقه فى يناير ويونيو.. وهو حلم لم يدرك البعض التكلفة العالية للوصول إليه.. حرب باردة للتخلص من النظام القائم.. حصار اقتصادى يزيد من متاعب الحياة اليومية للمصريين لدفعهم لثورة ثالثة تنتهى بفوضى عارمة تهدد كيان دولة لا تزال فى مرحلة النقاهة.. وافتعال أزمات سياسية مع الحلفاء للهجر والابتعاد.. تمهيدا لتفجر الخلافات وضرب التحالفات.

إن مصر لم تعش يوما طبيعيا منذ 30 يونيو.. عمليات عسكرية فى سيناء.. اغتيالات فى القاهرة.. ضرب طائرات وخطفها.. ضغوط إعلامية على الشبكات الافتراضية للوقيعة بين الشعب والجيش.. ومحاولات متكررة لقتل الرئيس آخرها كشفت منذ أسبوعين.

ليصبح السؤال: هل نوقع شيكا على بياض بعودتنا إلى حظيرة التبعية مقابل فك أزمات الأرز والسكر والبوتاجاز؟.. هل الثمن يكفى لبيع الكرامة الوطنية؟.. ألا تخضع الدول والشعوب والحكومات للتحذير الأخلاقى الشائع: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها؟

والسؤال الأهم: هل نقبل المصالحة مع الإخوان التى تعد الشرط الأول والأخير لخروجنا من عنق الزجاجة التى حشرنا فيها؟.

والسؤال الأكثر أهمية: هل نقبل أن ينحنى الرئيس لكى نأكل ونشرب ونصيف فى الساحل الشمالى ونشتى فى العين السخنة ونحن الذين جئنا به مشترطين عليه استقلال القرار الوطنى بما يضمن حماية الأمن القومى؟.

لا هو سيقبل ولا نحن أيضا.. فاللقمة المغموسة فى الذل لا تسمن.. بل لا تشبع.

لكنها الفواتير القديمة والصعبة التى علينا دفعها بعد أن تأخرنا طويلا.