نصار عبدالله يكتب: أصله.. ما بيعرفش ربنا!
مناسبات معينة تذكرنى بين الحين والحين بمشهد لا أنساه، عشته منذ أكثر من عشرين عاما، عندما كنت لا أزال قادرا على ممارسة هواية صيد الأسماك!.. كنت إذ ذاك أتخير موقعا خاصا تنطبق عليه مواصفات الموقع المثالى التى يعرفها ذوو الخبرة فى الصيد، حيث تبرز رأس حجرية فى مياه النيل، وحيث تنحنى ضفة النيل إلى جوارها على هيئة قوس متسع ثم تعود بعد ذلك إلى استقامتها الأصلية،.. حين تصل أمواج النيل إلى محيط القوس ترتطم به فتنشأ موجة مرتدة تتحرك فى الاتجاه المضاد، وتظل تتحرك إلى أن تلتقى بالموجة الأصلية عند نقطة معينة.. النقطة الأخيرة هى نقطة التوازن وهى النقطة المثلى التى يتعين أن تلقى إليها بقطعة الرصاص المثبتة قرب نهاية سلك الصيد، وتحتها الصنارة معمرة بالطعم (إذا ألقيت بالرصاص فى أى موضع آخر فسرعان ما سوف تدفع به الأمواج إلى ضفة الشاطئ حيث لن تظفر إلا بالأسماك الصغيرة.. النوارش).. الموقع الذى كنت أتخيره يقع على الضفة الغربية لقرية القرامطة بسوهاج.. حيث كنت أقضى اليوم بطوله تقريبا.. أراقب البوصة التى قمت بتثبيتها على حامل حديدى وقد امتد السلك من طرفها (اللبلوب) إلى حيث ينغمر فى الماء عند نقطة التوازن، وحين يبدأ اللبلوب فى الاهتزاز.. أعرف أن ثمة سمكة تداعب الطعم، فأتهيأ للجذب.. وحين ينحنى طرف البوصة أعرف أن السمكة قد أطبقت فمها، فأجذب البوصة بحركة خاطفة!.. أنتقل بعد هذه المقدمة التى آمل ألا تكون مملة إلى الواقعة التى سأرويها حين اقترب منى يوما قارب لأحد الصيادين وسألنى إن كان معى شاى، فأجبته بالإيجاب وقدمت له باكو صغير الحجم، وعندما سألنى عن ثمنه قلت له: اعتبره هدية!،فشكرنى وانصرف مبحرا بقاربه.. لكننى فوجئت به وقد عاد بعد حين ليرسو وينزل حاملا برادا وكوبين، ويصب لى كوبا من الشاى ولنفسه كوبا.. وحين هممت بأن أشكره سمعنا صوت لنش شرطة المسطحات النهرية ففوجئت بالصياد وقد أسرع بالفرار راكضا بأقصى سرعته!!.. غير أن اللنش لم يقترب من موقعنا وواصل مساره إلى أن اختفى صوته.. بعد قليل عاد الصياد ليشرح لى سر فراره.. قال لى : «من يوم ما جرجس أفندى مسك شرطة المسطحات واحنا مش لاقيين ناكل.. الله يرحم أيام عبدالرحمن بيه.. كان ييجى يمد إيده فى المشنة، ياخد العشا بتاعه ويسيبلنا عشانا!!.. كان راجل يعرف ربنا.. أما جرجس ده ،.. علشان كافر.. على طول يأخد مننا الشبك، ويعمل لنا جنحة!.. قلت له: لازم الشبك بتاعك مخالف.. بيصطاد السمك الصغير.. لو كان مظبوط ما كانش يقدر يعمل لك أى حاجة!.. قال: طب وناكل منين لو عملنا الشبك زى ما الحكومة عايزة.. البحر خلاص ما فيهوش سمك كبير.. نموت يعنى ولا نسيب عيالنا تجوع؟.. الحكومة كمان لازم يبقى عندها نظر.. وتبطل تجيب لنا الكفار دول اللى ما يعرفوش ربنا.. كان ماله عبدالرحمن بيه ينقلوه ليه؟ فيه بيوت كانت مفتوحة على حسه والناس كلها بتدعيله!!.. لم أجد رغبة فى مواصلة الجدل معه فتظاهرت بمسايرته، مكتفيا فقط بلفت نظره إلى أن المسيحيين مش كفار وفيهم ناس كثيرة كويسة، فما كان منه إلا أن أمّن على قولى قائلا: أيوه فيهم.. فلتس أفندى مثلا.. اللى كان هنا زمان، ما يتخيرش عن عبدالرحمن بيه ولا عن أى مسلم.. كان يقوللى هنتعشى إيه النهارده يا حاج، أقول اللى تأمر بيه ياباشا.. يقول: لأ اللى يطلع من ذمتك، واللى انت مسامح فيه.. ناس كلها ذوق وأخلاق، ناس ما تتعوضش!!