تفسير الشعراوي للآية 248 من سورة البقرة
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}.
لقد أرسل الحق مع الملك طالوت آية تبرهن على أنه ملك من اختيار الله فقال لهم نبيهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} أي إن العلامة الدالة على ملكه هي {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} وهذا القول نستدل منه على أن التابوت كان غائباً ومفقوداً، وأنه أمر معروف لديهم وهناك تلهف منهم على مجيئه.
وما هو التابوت؟ إن التابوت قد ورد في القرآن في موضعين: أحدهما في الآية التي نحن بصددها الآن، والموضوع الآخر في قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 38-39].
إذن فالتابوت نعرفه من أيام قصة موسى وهو رضيع، عندما خافت عليه أمه؛ فأوحى لها الله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} فهل هو التابوت نفسه الذي تتحدث عنه الآيات التي نحن بصددها؟
غالب الظن أنه هو؛ لأنه مادام جاء به على إطلاقه فهو التابوت المعروف، وكأن المسألة التي نجا بها موسى لها تاريخ مع موسى وفرعون ومع نبيهم ومع طالوت وهذه عملية نأخذ منها أن الآثار التي ترتبط بالأحداث الجسيمة في تاريخ العقيدة يجب أن نعنى بها، ولا نقول إنها كفريات ووثنيات؛ لأن لها ارتباطاً بأمر عقدي، وبمسائل تاريخية، وارتباطا بالمقدسات. انظر إلى التابوت الذي فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وتحمله الملائكة. إن هذا دليل على أنه شيء كبير ومهم.
إذن فالآثار التي لها مساس وارتباط بأحداث العقيدة وأحداث النبوة، هذه الآثار مهمة للإيمان، وكأنّ القرآن يقول: اتركوها كما هي، وخذوا منها عظة وعبرة؛ لأنها تذكركم بأشياء مقدسة. لقد كان التابوت مفقوداً، وذلك دليل على أن عدواً غلب على البلاد التي سكنوها، والعدو عندما يغير على بلاد يحاول أولاً طمس المقدسات التي تربط البلاد بالعقيدة. فإذا كان التابوت مقدساً عندهم بهذا الشكل، كان لابد أن يأخذه الأعداء. هؤلاء الأعداء هم الذين أخرجوهم من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وإذا كانوا قد أخرجوهم من ديارهم فمن باب أولى أنهم أجبروهم على ترك التابوت.
والله سبحانه وتعالى يطمئنهم بأن آية الملك لطالوت هي مجيء التابوت الذي تتلهفون عليه، وترتبط به مقدساتكم. {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فكأن الاستقرار النفسي سيأتيكم مع هذا التابوت؛ لأن الإنسان حين يجد التابوت الذي نجا به نبي، وفي الأشياء التي سنعرفها فيما بعد، إن الإنسان يستروح صلته بالسماء، وهي صلة مادية تجعل النفس تستريح.
وعلى سبيل المثال تأمل مشاعرك عندما يقال لك: (هذا هو المصحف الذي كان يقرأ فيه سيدنا عثمان).
إنه مصحف مثل أي مصحف آخر، ولكن ميزته أنه كان يقرأ فيه سيدنا عثمان؛ إنك تستريح نفسياً عندما تراه. وأيضاً حين تذهب إلى دار الخلافة في تركيا، ويقال لك: (هذا هو السيف الذي كان يحارب به الإمام علي)، فتنظر إلى السيف، وتجد أن وزنه وثقله يساوي عشرة سيوف، وتتعجب كيف كان يحمله سيدنا علي كرم الله وجهه وكيف كان يحارب به.
وكذلك عندما يقال لك: (هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المكحلة التي كان يكتحل بها)، لاشك أن مثل هذه المشاهد ستترك إشراقاً وطمأنينة في نفسك. وعندما يراها إنسان به بعض الشكوك والمخاوف فإن العقيدة تستقر في نفسه.
ومن هذا كله أقول: إن ولاة الأمر يجب ألا يعتبروا مقدسات الأشياء ضرباً من الشركيات والوثنيات، بل يجب أن يولوها عناية ورعاية ويبرزوها للناس؛ لتكون مصدر سكينة وأمن نفس للناس، وعليهم أن ينصحوا الناس بألا يفتنوا بها، ولكن عليهم أن يتركوها لتذكرنا بأمر يتصل بعقيدتنا وبنبينا.
وانظر إلى حديث القرآن عن التابوت. إن الحق سبحانه لم يقل: إن التابوت سيأتي كاملاً، ولم يقل كذلك إنه التابوت الذي وُضع فيه موسى، وإنما قال: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} كأن آل موسى وهارون قد حافظوا على آثار أنبيائهم، وأيضا قوله تعالى: {تَحْمِلُهُ الملائكة} يؤكد لنا أنه لا شك أن الأثر الذي تحمله الملائكة لابد أن يكون شيئاً عظيماً يوجب العناية الفائقة {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت}.
ونلحظ في قوله: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} إنه سبحانه قد نسب الإتيان إلى التابوت، فهل كان من ضمن العلامة أن يأتيهم التابوت وهم جالسون ينتظرون ولأن التابوت تحمله الملائكة فلن يراهم القوم لأنهم كائنات غير مرئية، فلن يراهم أحد وإنما سيرى القوم التابوت آتياً إليهم، ولذلك أسند الحق أمر المجيء للتابوت.
وهذا المشهد يخلع القلوب ويجعل أصحاب أشد القلوب قساوة يخرون سجدا ويقولون (طالوت أنت الملك، ولن نختلف عليك). ونريد الآن أن نعرف الأشياء التي يمكن لآل موسى أن يحافظوا عليها من آثار موسى عليه السلام، والآثار التي يحافظ عليها آل هارون من هارون عليه السلام.
قال بعض الناس إنها عصا موسى، وهي الأثر الذي تبقى من آل موسى، وذلك أمر معقول؛ لأنها أداة من أدوات معجزة موسى عليه السلام. ألم تكن هي المعجزة التي انقلبت حية تسعى وابتلعت بسرعة ما صنعه السحرة؟ إن مثل هذه الأداة المعجزة لا يمكن أن يهملها موسى، أو يهملها المؤمنون به بعد ما حدث منها. وليس من المعقول أن يفرط آل موسى في عصا تكلم الله فيها وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 17-18].
إن هناك قصة طويلة استغرقها الحديث عن هذه العصا، فكيف يفرط فيها موسى وقومه بسهولة؟ لاشك أنهم حافظوا عليها، وقدسوها، وجعلوها من أمجادهم.
ويرينا الحق سبحانه وتعالى أن هؤلاء القوم أهل لجاج وأهل جدل وأهل تلكؤ، فهم لا يؤمنون بالأمور إلا إذا كانت حسية كالتابوت الذي يأتيهم وحدهم، صحيحا تحمله الملائكة، لكنهم لا يرون الملائكة؛ وإنما رأوا التابوت يسير إليهم، {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الملائكة إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} وليس هناك آيات أعجب من مجيء التابوت حتى يثبت صدق النبي في أن الله قد بعث طالوت ملكاً، فإن لم يؤمنوا بهذه المسألة فعليهم أن يراجعوا إيمانهم.
والسياق القرآني يدل على أن الله بهتهم بالحجة، وبهتهم بالآية، وبهتهم بالقرآن، بدليل أنه حذف ما كان يجب أن يقال وهو: فقبلوا طالوت ملكاً. ونظم طالوت الحرب فقام وقسم الجنود ورتبهم، وكل هذه التفاصيل لم تذكرها الآيات. والحق يقول بعد ذلك: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ...}.