"الكلباني": ليس بتخريب المملتكات والأغاني والشيلات تفرحون بوطنكم!
أكد إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالمحسن المحيسن بأشبيليا، الشيخ عادل الكلباني، أن الوطن كالأم نحبه، وكل مافيه يطربنا، ويسري في دمائنا عشقه، نحتفل فرحاً بذكرى عزيزة على قلوبنا وهو يومنا الوطني؛ لكن ليس من الإسلام أذية المسلمين وتعطيل مصالحهم وإغلاق طرقهم بحجة الفرح، ولا تخريب الممتلكات وارتكاب المحرمات ورفع الأصوات بالأغاني والشيلات، لا يكون الفرح بهذه الطريقة!
وقال، في خطبة الجمعة عن ذكرى توحيد البلاد على يد المؤسس الملك عبدالعزيز: "أيها الأحبة، لا نحتاج إلى إثبات ما تَقرر في الأذهان، واستقر في الوجدان، ونبتت عليه الأركان، الوطن عشق كل إنسان، الوطن انتماء وأمن وأمان، الوطن أرض وتراب وبلد وأهل وجيران وأصحاب وأصدقاء وخلان، الوطن بيت وشارع وحي ومدينة ورمال وكثبان". وفق صحيفة "سبق"
وتابع: "الوطن هذه السماء وهي صافية، وحتى وهي مكدرة بالغبار، مظللة بالدخان، الوطن بحرّه الشديد، وبرده القارس، باختلاف تربته ومناطقه ولهجاته وعاداته، الوطن كالأم نحبه وكل ما فيه يطربنا اسمه، ويسري في دمائنا عشقه".
وأضاف: "كم يسافر المرء منا يمنة ويسرة، ويرى بلداناً جميلة، ومناظرها خلابة، وأنهارها جذابة، وتطورها مذهل، يعيش فيها أياماً يشعر بالسعادة لما يرى؛ لكن الشوق إلى الوطن يكدر منه كل انبساط، ويقلل سريان الدم في النياط، ويتردد في الخلجات قول القائل: "سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها.. لكحلت به من شدة الشوق أجفاني".
واستشهد "الكلباني" قائلاً: "في البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته، وإن كانت دابة حركها من حبها. قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".
وبيّن: "في البخاري أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقول للمريض: (بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا)، قال ابن حجر: قال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلاً في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر؛ فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها".
وأردف: "أيها المسلمون، أحدثكم عن الوطن لأن النعم التي يرفل فيها الإنسان عادة لا ينتبه إليها، ولا يشعر بها؛ فإذا فقدها عرف قيمتها وأحس بمكانتها؛ كالعافية التي لا يقدّر المرء قيمتها حتى يمسه الضر، ويشكو علة فيتذكر كم كانت نعمة عظيمة وهو عنها غافل!".
وواصل: "لو سألت المشردين والباحثين عن رحمة العدو بعد تنكب الصديق عن مكان يؤون إليه، والخوف يلفهم والفقر يقصم ظهورهم، وقبل الجوع تنهشهم كلاب، ومن الإفرنج دامية النصال، وصلاب لكن الأقدار تمضي، ويثني الجوع أعناق الرجال".
وجاءت تكملة الخطبة التي تزامنت مع ذكرى الوطن كالآتي: "لو سألتهم عن نعمة كانوا فيها فاكهين، كثيراً ما نقموها، وكثيراً ما عابوها؛ لرأيت الحسرة على وجوههم ترتسم، والزفرة من صدورهم تخرج بالألم.
وقد صرنا بين فريقين كلاهما مخالف للوسط الذي يجب أن تكون عليه هذه الأمة؛ ففريق يُكثر النقد ولا يرى خيراً في بلده، ولا في أهلها، ويرى أن من امتدح بلاده أو أثنى على المسؤول فيها، فهو ليس إلا عميل يتقن التزلف والتطبيل.
وفريق آخر يظن أن مدح الخطأ والثناء على الفساد هو الوطنية، وأن الولاء للإمام لا يكون إلا بالكذب والنفاق وتغيير الوقائع وتزوير الحقائق.
والحق الذي لا مراء فيه، أن نقد الخطأ والسعي في الإصلاح لا يعني كره الوطن والتبري منه، ومدح الحق والثناء على المحسن وإبراز الجهد الصالح ليس عمالة ولا تطبيلاً.
ثم إن الاتهام بالعمالة للوطن ليس مما يتبرأ منه المسلم؛ فكل مسلم متبع للمنهج النبوي الحق لا بد أن يكون على دراية بما تعنيه ولاية الأمر، وما هو معنى السمع والطاعة، ولا بد أن يكون عميلاً في نظر المفسدين والمخربين والخوارج والبغاة والمجرمين؛ إذ هو حريص على كشف سترهم، وقطع طريق الفساد عليهم، والتعاون مع من تولى ولاية الأمن والحفاظ عليه، والتبليغ للجهة المسؤولة عن كل من يرى أنه قد يضر بالفرد أو المجتمع؛ فالله تعالى قد نص في كتابه على أنه لا يحب المفسدين؛ وبالتالي لا يجوز التعاون معهم، ولا السكوت عنهم؛ بل الواجب شرعاً وعقلاً أن يقف المرء المسلم ضد أي فرد أو مجموعة تسعى في الأرض فساداً؛ مهما كان نوع ذلك الفساد؛ فليس الفساد محصوراً في قنبلة تُفَجّر، أو مسلم يقتل؛ بل هو عام في التحريض، ونشر الفتنة، والتفرقة، وإشاعة الفوضى، وبث روح الكراهية بين الراعي والرعية، والإرجاف الذي يزعزع ثقة الرعية في ولاتها، ويثير حماسهم للخروج عليهم، أو نزع يد الطاعة لهم. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم، ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً}.
وقد قال حبيبنا صلى الله عليه وآله: (إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله وكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين وعامتهم). رواه أبو داود.
فالنصح لولاة الأمر من الدين، والخيانة لا تجوز شرعاً ولا عرفاً، وليست هي من أخلاق النبلاء، ولا من شيم العقلاء، والله لا يحب ولا يهدي كيد الخائنين.
فلا يصح لمؤمن أن يعلم شيئاً عن مخرب أو مثير لفتنة أو مشعل نار حرب وفرقة وتناحر وتباغض؛ إلا أن يأخذ على يد السفيه ويأطره على الحق أطراً، وينبغي له أن يكون (عميلاً) يبلغ عنه السلطات، ويسعى في وأد فتنته، وإطفاء ناره.
إن الذي يريد الإصلاح لا يمكن أن يسعى إليه بالطرق التي أثبتت فشلها، ورأينا أثرها في من حولنا، في انتهاك أعراض العفيفات الغافلات المؤمنات، وهتك ستر المحصنات، وسفك دماء أطفال وشيوخ ونساء، وهدم بيوت بل مدن بأكملها، وتشريد الملايين حول الدول القريبة يتصدق الناس عليهم، ويتفرج الغرب على محنتهم، ويستغل ظروفهم وفقرهم وحاجتهم وضعفهم؛ لينشر عقيدته الضالة، ودينه المنسوخ؛ في ظل ضعف المنظمات الإسلامية وقلة حيلتها.
معاشر الأحبة: إن الوطن له ثمن لا يدركه إلا مَن فقده، وكم يتمنى أصحاب المخيمات في الدول المجاورة أن يعيش ولو على رصيف في موطنه، سلوهم عن الجنة التي فقدوها وهم لا يشعرون، وهم يجلسون على مائدة في بيت صغير آمنين مطمئنين، وسلوهم كم هي مؤلمة نظرة العطف من الآخرين، وكم هو مؤلم تخلي الأقربين.
ولست هنا أحرم الفقير من حقه في أن يطلب الغنى، أو أن يسعى إلى الراحة، أو أن يرفع صوته عالياً ذلك العاطل يريد عملاً ويريد بيتاً، هذه حقوق ينبغي أن نسعى لتحقيقها ونتعاون لإيجادها؛ لكن عبر الوطن وفيه وبالحرص على المحافظة عليه وعدم الإضرار به.
بالنصح والتكاتف، بالنقد البنّاء الذي يبين العلة ويعين على إيجاد علاج لها؛ أما التحريض والسفه والسعي لما يسمى بالثورة أو الخروج على ولاة الأمر؛ فهذا ما لا يوجد في قاموس مَن يؤمن بالله واليوم الآخر.
أيها الأحبة، كثير من المشكلات نعايشها وتلفنا؛ فنحن جزء من البشر، فينا القوي، وفينا الضعيف، وسيكون بيننا ظلمة ومعتدون، وفساق وانتهازيون، وغير ذلك؛ فهذا شيء جُبلت عليه الحياة؛ حتى في دائرتيْ الإيمان والإسلام، وفي المجتمع التقي سيوجد من تضعف تقواهم وينقص إيمانهم وتستشرف نفوسهم للظلم والبغي والعدوان والفساد الأخلاقي والإداري؛ فلسنا ملائكة مطهرة كراماً بررة؛ بل نحن من بني آدم، وآدم نفسه عصى ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى.
ومجتمعنا ليس بدعاً من المجتمعات، ووطننا كذلك ليس مختلفاً عن بقية الأوطان؛ ففي أبنائه مَن يسرق ويقتل ويزني ويكذب ويخدع ويماطل ويعتدي ويغشّ، ولولا ذلك لما شرع الله تعالى القصاص وحد الحدود.
ولكن في الوطن أيضاً رجالاً مخلصين مجدّين، فيه أتقياء وأصفياء، فيه كثير من الأغنياء الذين مما رزقهم الله في جميع وجوه الخير ينفقون، فيه العباد والزهّاد، الركع السجود، يهللون ويسبحون.
فاتقوا الله عباد الله، وصونوا وطنكم، واحموا بلادكم، واحرصوا على أمنها واستقرارها؛ فأنتم المستفيدون والمعنيون بذلك، من أجلكم ومن أجل أبنائكم وأحفادكم وأهليكم. ولقد جاء النص من الحبيب صلى الله عليه وآله على هذه النعمة العظيمة، في قوله: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا). رواه الترمذي، وحسّنه ابن حجر، وصححه أحمد شاكر، وحسنه الألباني.
ولكم الحق كل الحق أن تفرحوا بوطنكم، وتحتفلوا به؛ لكن ليس من الإسلام أذية المسلمين، وتعطيل مصالحهم، وإغلاق طرقهم بحجة الفرح، ولا تخريب الممتلكات، وارتكاب المحرمات، ورفع الأصوات بالأغاني والشيلات.