أحمد فشير يكتب: "من على جبل عرفات"
مِن علي جبل عرفات أهديكم التحية، حيث لبت روحي نداء ربها، مغادرةً إلي هناك لتقف بين أشقائها المسلمين، تصافح أبيضهم وتعانق أسوَدهم وتؤازر “أبا القاسم” السوري، وتشدُ علي عضد “عدنان” الفلسطيني وتواسي “العبيدي” اليمني، وتقف في أشد حالات حُزنها خجلة مِـن “رسول الله” حينما رأته يستظل في خيمة أعدها “ابن مسعود”، وتختبئ خائفةً من غلظة “عمر”، وتسألُ عن “أبي بكر” ليذكُرها عند رسول الله، وليعفو عما قدمته من قلة الخير وكثرة الشر، وتتمنى أن يحدث ذلك فتطير فَرِحةً وتقبلُ يده الشريفة وتهتف فداك نفسي يا رسول الله، وتُبَّـلغُ الحجيج علي قدر الإستطاعة أن “رسول الله” ذكرها وتتباها وتفتخر.
وبعد هذا السراب، وذهني
الذي شرد بعيداً، وجدته يستعيد تركيزه شيئًا فشيئاً وعادت “روحي” الهائمة المسافرة
عرفات إلي مستقرها حيث جسدي الذي يستقل مقعدي المفضل في منزلنا، وفجأة وجدتُ نفسي تأمل
وتتألم، تأمل أن تكون حقيقةً علي “عرفات” العام القادم وتصيحُ ملبيةً إلي أن ينقطع
صوتها من علوه، وتهيم في ذكر الله وتهرول في كل مكان من شدة الفرح الذي تشعر به، و”ربها”
الذي يستقل السماء الدنيا ويباهي ملائكته بها ويشهدهم أنه غفر لها ولمن معها، وكان
هذا الأمل البعيد ولكن لا مستحيل والله علي كل شئ قدير.
وعن الألم وجدت نفسي تواسي
إياها وتصبرها وتتخيل لو أن “رسول الله” بيننا الآن أو أنه استقل جبل عرفات يوم أن
يقف المسلمون عليه ويطلع علي حالهم، كيف يكون رد فعل الحليم صلي الله عليه وسلم، وكيف
يكون موقفنا والأمة العربية تعيش في شتات، القدس محتلة، والشام ينزف والغرب يتولي أمرنا
ويتدخل في شئوننا، فحقاً نحن خالفنا أوامر رسول الله وتركنا النور الذي جاء به ذاهبين
في الظلمات وخالفنا هداه هائمين في الضلال، أليس هذا ألم؟!.
أعود بالذاكرة إلي طقوس
موسم الحج و”يوم الوقفة”، والمسلمين علي “عرفات” يلبون ويهللون ونحن نتابعهم أمام الشاشات
ونشاركهم الشعور ونجد ألسنتنا تلبي بطريقة غير إرادية، وقلوبنا من الفرحة تدق دقاً،
وقبيل أذان “المغرب” والجميع صائمون ينتظرون الأذان ليجنوا ثمار صيامهم مكفرين “عامين”،
كما جاء في “الحديث” أن صيام يوم عرفة احتسب علي الله بسنتين، يكفر سنة ماضية وسنة
آتية.
وفي نفس الوقت من كل عام
كان “أبى”يحكي لنا تفاصيل “حِجتيه” اللتان أداهما منذ أعوام، ومغامراته، ويوم أن اتَّـكأ
علي أحد رفاقـه وأمسك بـ”ريتاج الكعبة”، وطوافه حول الكعبة وهرولته بين الصفا والمروة
وقصته مع رمي الجمرات، و”أبي” يقص علينا بأدق التفاصيل، ونحن نجلس منصتين ومنتبهين،
ولم تكن “نفسي” فقط هي التي تهيم وروحي هي التي تصعد إلي عرفات، ولكن كانت أُسرتي تشاركني
في هذا العمل الطيب والشعور الطاهر، وبينما ينتهي “أبي” من حديثه، ينهال عليه وابلٌ
من الأسئلة ويلبي “أبي” مجيباً بلا أي فتور كعادته، وهكذا في كل عام في نفس الوقت،
ونستمع دون ملل أو فتور مشتاقين رغم أننا حفظنا الأحداث حفظاً صما.
لبيك اللهم لبيك ..لبيك
لا شريك لك لبيك..إن الحمد والنعمة لك والملك ..لا شريك لك، والله أكبر الله أكبر الله
أكبر لا إله إلا الله، بين التلبيات والتكبيرات تزداد النفوس نوراً وتسعي في الملكوت
الله الرباني لتقف عند قبر رسول الله، السلام
عليك يا رسول الله، السلام عليك يوم ولدتُ ويوم متُ ويوم تبعتُ حيا، يا من جمعت هذا
الجمع العظيم حولك، تحية إليك يا سيدي، تحية لا تنقطع، فاللهم بحق حبنا لنبيك أقبلنا
وأرحمنا وعلي عرفات العام القادم جمعنا، وكل عام والأمة الإسلامية والعربية بخير.