عادل حمودة يكتب: ليس من السهل حكم مصر
ملوك ورؤساء وزعماء ووزراء لم يستوعبوا درس الملك فاروق للجنرال محمد نجيب:
الكاتب ليس منجما.. ولا ساحرا.. ولا يملك مفاتيح الغيوب.. وإنما يملك جهاز رصد يلتقط الذبذبات والإشارات والاهتزازات قبل وقوعها.. مثل الخيول التى تتحسس المطر قبل سقوطه.. وتشعر بالزلازل قبل وقوعها.
بتلك الغدة النشطة التى ينفرد بها يسبق الآخرين فى اكتشاف الحقيقة ويقدمها على طبق من الدهشة فيما يشبه النبوءة.
لكن.. أحيانا.. تبدو الحقيقة واضحة وشاخصة ومستقرة وثابتة وخالدة ومزمنة أمامنا.. لكننا.. لا نصدقها.. ولا نعترف بوجودها.. ونتصور أننا سنتجاوزها عندما نغمض عيوننا عنها.. وعندما تصب لعنتها على غيرنا نتصور أننا لن نصاب بها.
عند غروب شمس يوم 26 يوليو 1952 ارتدى الملك فاروق ثوب أدميرال بحرى قبل أن يستقل يخت المحروسة استعدادا للرحيل إلى منفاه فى كابرى بعد تنازله عن العرش لطفله الرضيع الذى حمله معه.. ومدت سجادة حمراء.. وعزف الموسيقى السلام الملكى.. واختلطت أصوات طلقات حرس الشرف بنحيب الحاشية فى لحظات فراق بدت صعبة عليها.
أصر عجوز الثورة اللواء محمد نجيب على وداعه.. لكن.. اليخت الملكى كان قد ترك الميناء منذ دقائق.. فأخذ محمد نجيب لنشا حربيا.. دار به دورة كاملة احتراما لتقاليد البحرية قبل أن يصعد هو وحسين الشافعى وجمال سالم وأحمد شوقى وإسماعيل فريد إلى سطحه.
كان الملك ينتظر محمد نجيب.. وعندما وجده أمامه صافحه بعد أن تلقى منه التحية العسكرية.. وبعد فترة من الصمت مرت دهرا تبادلا حوارا أقرب للثرثرة.. انتهى بجملة أخيرة للملك.. بدت عابرة.. لكنها.. فى الحقيقة كانت تجسيدا لخبرة وحكمة وحنكة سياسية لو استوعبت لتجنبنا كثيرا من الشقاء الذى عانينا منه كثيرا فيما بعد.
قال الملك الراحل للجنرال الحاكم:
مهمتك صعبة جدا فليس من السهل حكم مصر.
لم يتوقف أحد عند الجملة التى قيلت: ليس من السهل حكم مصر.
ولم يرددها أحد ولو بينه وبين نفسه كل من اعتلى السلطة: ليس من السهل حكم مصر.
وفى اللحظة التى يستوعب فيها رأس السلطة أنه ليس من السهل حكم مصر يكون الوقت قد فات.. فهو إما فى القبر أو فى السجن.. أو فى أفضل الأحوال فى المنفى ليموت وحيدا فى الغربة، كما حدث للملك فاروق ذاته.
وقد سمعت تلك الشهادة من محمد نجيب وهو يرقد وحيدا.. حزينا.. منكسرا.. فى فراش متواضع.. لا يملك سوى أن يشكو الله.. ويردد أدعيته.. ويقرأ أوراده.. متصورا أنه حقق معجزة بخلق ألفة بين القطط والكلاب التى كان ينشغل بتربيتها إذا ما توقف عن قراءة المصحف.
كنت أسجل مذكرات فى فيللا زينب الوكيل على أطراف المرج عندما سألته:
هل من الصعب حكم مصر حتى لو بدا سهلا؟
أجاب: لو كان حكم مصر سهلا لما وصلت إلى ما أنا فيه.. تأمل حالى.. هل تصدق أننى كنت رئيسا لمصر فى يوم من الأيام؟.. إننى لو نظرت فى المرآة لا أصدق أننى كنت يوما حاكما على مصر.. وأعترف لك.. ربما لأول مرة.. أننى ما أن وصلت للسلطة حتى تساءلت متعجبا: هل العملية سهلة إلى هذا الحد ؟.. وعندما غادرتها فجأة وجدتنى أؤمن بأنها أصعب وأعقد مما يمكن تخيله.. لكنها.. مثل الموت.. لا تدركه إلا وقد قبض عزرائيل روحك.
والحقيقة أننى لم أتأمل حالة محمد نجيب وحده وإنما امتد تأملى إلى حالات كل الذين من حكموا بعده.
لم يحظ حاكم فى مصر بما حظى به جمال عبد الناصر.. زعامة ساحقة.. شعبية هائلة.. مكانة دولية مميزة.. لكنه.. لم يحمد الأمة على ما منحته على ذلك.. منح اللقمة وسحق الفكرة.. جاء بالكساء وضرب بالحذاء.. بنى مستشفيات وضاعف المعتقلات.. قهر الإنسان.. وقطع اللسان.. فمسحت الهزيمة مجده قبل أن يتوقف قلبه.
وجاء أنور السادات ليحظى بلقب بطل الحرب والسلام.. لكنه.. بعد أن وضع رموز الأمة السياسية والصحفية والدينية والحزبية فى زنزانة واحدة انتهى.. اغتيل أمام كاميرات التليفزيون التى كان يعشقها.. ودفن فى قبر من الرخام.. لتنتقم منه الأقلام.. ولم يتلق سوى القليل من مكاتيب الغرام.
وجاء مبارك فى يوم لم يطلع له نهار.. ليظل الوطن فى حالة اختصار.. ولم نجد بعد طول حكمه مفرا أمامنا سوى الانتحار.
لم يكن صاحب قضية لكنه حكم بالداخلية.. وبالغفلة والثقة الزائفة والغرور لم يتصور أن الدنيا تدور.. انقطع فى سنينه المطر.. وانكسر القمر.. وجف من النهب والفساد الشجر.. وعندما فرض علينا اللعنة تخلصنا منه بثورة.. وبعد أن كان بطل الضربة الجوية وجد نفسه محبوسا فى قضايا جنائية.
وبانتخابات حرة أصبح محمد مرسى فوق الأمة.. حاصرنا بخناجر جماعته الإرهابية من جميع الجهات.. لم تقتنع سكاكينها أن لحمنا لا يؤكل نيئا.. ولا مسلوقا.. ولا مشويا.. لكن.. الرئيس الحافظ لكتاب الله أصر على ذلك.. ربما نكون طبقا شهيا يغريه بالالتهام.. فقد كان يرى السلطة نوعا من التدبير المنزلى.. كل ما عليها أن تمول ولائم الطعام الجماعية فى قاعات قصر الاتحادية.. فلم يشعر بالندم على سقوطه بعد أن اطمأن أن تلك الولائم الشهية مسموح بدخولها إلى السجون المركزية.
وربما.. لو نزلنا درجة لوجدنا الظاهرة نفسها تطول الوزراء.
لقد التقيت وزير التموين خالد حنفى أول مرة منذ نحو عامين فى الفندق الذى كان ينزل فيه الرئيس فى نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة.. كان الوزير منتشيا.. يفخر بأن الرئيس يقدمه فى الاجتماعات إلى ضيوفه الكبار بلقب زميلى.. ولا شك ساعتها أنه أحس بسهولة العمل وزيرا.. لكن.. من المؤكد أن الحالة التى كان عليها وهو يعلن استقالته فى مؤتمر صحفى جعلته يراجع نفسه.. ويدرك مدى صعوبة الحكم ولو على مستوى وزير.
وقد استهلكنا عشرات الأطنان من ورق الصحف وساعات طويلة فى توك شو الفضائيات وتحدثنا عن إقامته فى سميراميس وتقرير القمح ولكن.. أتحدى أن يجيب أحد على السؤال السهل بعيداً عن التكهنات والاجتهادات: لماذا استقال وزير التموين؟
من ملك إلى رئيس.. ومن وزير إلى خفير.. كل من مر على سلطة فى مصر تصور أن السلطة أسهل من السلاطة.. المحبوب منهم والمكروه.. القائد والموظف.. المتهور والبارد.. الجرىء والطفس.. لكنهم.. لم يكتشفوا صعوبة حكمها إلا بعد فوات الأوان.
لم يتعلم أحد منهم الدرس من سلفه.. ولم يعلمه إلى خلفه.. وكل منهم كان يشعر فى قرارة نفسه بأنه مختلف.. لن يلقى المصير ذاته.. دون أن يدرك أنه عندما تكرر الخطأ لن تصل إلى نتيجة مختلفة.. وأنه لو ركب ذات القطار فإنه لن يصل إلا لذات المحطة.
وقد اختلف حكام مصر ووزراؤها وغفراؤها فى صفاتهم الشخصية والنفسية والثقافية والبدنية.. وانتهوا إلى ذات الحقيقة.. تنوعت وسائل وصولهم إلى الحكم.. واختلفت البدايات.. وتعددت الطرق.. لكن.. الخاتمة ذاتها غالبا ما وضعتهم فى صف واحد.
ترى.. ما التفسير المناسب لتلك الظاهرة السياسية التى ننفرد بها فى مصر؟
الإجابة تتفجر باجتهادات لا حصر لها.
هناك من يشعرنا باليأس ويؤكد أنها جينات فرعونية يصعب التخلص منها.
وهناك من يتورط فى إهانتنا ويرجع السبب إلينا.. فنحن فى رأيه شعب يصنع الآلهة ويقدم حريته وطاعته وكرامته قربانا إليها، فإذا ما نفد مخزون الصبر لديه حطمها لو كانت من حجارة.. وأكلها لو كانت من عجوة.. شعب معاكم معاكم عليكم عليكم.. اخترع التقية.. يتجنب البطش بإظهار ما لا يبطن.
وهناك من يعتمد باطمئنان نظرية ديكتاتورية النهر.. فالسلطة المركزية التى تتحكم فى المياه تتحكم أيضا فى الحياة.. فإذا ما جاء الجفاف وحل العطش وجدت نفسها فى خطر.
وربما.. كانت هناك اجتهادات أخرى.. أتصور أن أفضلها يلاحظ أن كل حاكم يبدأ من الصفر.. وكأن الدولة ولدت على يديه.. ولم تفطم بعد.. لا هو درس ما سبق من أخطاء.. ولا هو تجنب الوقوع فيها.. لا هو استفاد من خبرات أثبتت وجودها.. ولا هو وضع يده على خبرات بديلة أفضل منها.. لا هو نجح فى توصيل ما يفكر فيه للناس.. ولا هو تقبل اعتراضا منهم.
إننا.. نحلم ونرغب ونتمنى أن تكون هذه الظاهرة قد تلاشت أو تقلصت أو تراجعت أو على الأقل انتبهنا لخطورتها وبدأنا فى تجاوزها وإلا لدغنا من الجحر نفسه أكثر من مرة ونحن نصطاد الثعابين.