سبيل الصحابة الكرام
إن تبليغ رسالة الله من أعظم المسؤوليات وأشدها صعوبة، لأن ذلك يحتاج إلى صبر عظيم وتحمل كبير فإنه لا شك أن أعداء الله من الجن والإنس يُعادون مثل هذه الدعوات الطيبة المباركة، فيُكذّبون الأنبياء والرسل ويكيدون لهم ولربما قتلوهم، قال الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.. [الأنعام: 112]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}.. [البقرة: 87].
من رحمة الله سبحانه برسله أن سخر لهم أصحابا وحواريين يؤمنون بهم ويؤيدونهم وينصرونهم ضد الأعداء والقتلة المجرمين، قال عليه الصلاة والسلام: (مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ).
لقد كان الصّحابة رضي الله عنهم من جملة هؤلاء الحواريين، فقد آمنوا بالرّسول صلى الله عليه وسلم ونصروه وعزّروه، فلقوا في ذلك البلاء الكبير والعذاب المرير من طرف كفار قريش، فهذا عمار بن ياسر رضي الله عنه عذب وقتل أبوه وأمّه، وهذا بلال رضي الله عنه عذب ووضع الصخر فوق صدره ليكفر، فأبى إلا توحيد الله سبحانه ونبذ الشرك، وقد قوطع الصحابة من قريش وحوصروا فما وجدوا بعدها أكلا سوى أوراق الشجر؛ لم تكتفي قريش بكل هذا بل قاتلوهم وطردوهم من بلادهم وأخرجوهم من ديارهم، قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.. [الحج: 39-40].
لما كان الصّحابة رضي الله عنهم بهذا القدر العظيم من الإيمان والتوحيد، أعلى الله سبحانه مكانتهم ورفع قدرهم وأظهر شأنهم وغفر لهم وجعلهم من أهل جنّاة النعيم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم}.. [الأنفال: 74]، وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.. [التوبة: 88-89]، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.. [التوبة: 100].
لقد أمرنا الله سبحانه والنّبي صلى الله عليه وسلم باتباع سبيل الصحابة وسلك طريقهم ونهجهم، فهم أعلم النّاس بالطريق الصحيح، إذ أنّهم درسوا على أيدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الدّين منه مباشرة، أضف إلى ذلك أنهم من أخير الناس وأتقاهم لله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)، وقال عليه الصلاة والسلام: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ)، وقال الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.. [النساء: 115]، وسبيل المؤمنين هو سبيل الصحابة رضي الله عنهم، وقال الله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. [البقرة: 137]، فجعل الله سبحانه الإيمان بمثل ما آمن به الصّحابة علامة على الهداية، وجعل التّولي عن ذلك دليلاً على الشقاق والضلال.
يجب على المؤمنين أن يعلموا قدر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يحبوهم ويسلكوا سبيلهم ويستغفروا لهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.. [الحشر: 10]، قال الإمام الطحاوي رحمه الله: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حبّ أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.