د. محمد أبو المجد يكتب: الجمال والفن
إن التزامن الطبيعي مع المتغيرات بجميع أنواعها وشتى مستوياتها يخلق تجددًا في الشخصية بكل اعتباراتها، ربما تكون الشخصية بكل ما يدور فيها مكررة، لكن يكون هذا التكرار من قبيل تكرار الشخص والنهر، فالشخص لا ينزل إلى النهر نفسه مرتين، وعلى هذا الاعتبار يكون التكرار.
والجمال يعد واحدًا من هذه المتغيرات وإن كان نسبيًا للشخصية، إلا أن هناك معايير تحكم هذا التناسب، ومن أهم تلك المعايير الأبعاد الاجتماعية والبيئية والثقافية. وهذه المعايير الثلاثة من أهم الركائز التي يعتمد عليها التفاوت في الحكم على الجمال، فالظروف الاجتماعية تفرض على مخيلة الفرد نموذجًا من الجمال يهيم به، وإما أن يكون هذا النموذج متفقًا مع الملابسات الاجتماعية التي يحيا فيها الفرد وإما أن يكون نظرة تمردية على هذه الملابسات، مما ينتج عنه اختلاق نموذج غير مرتب الملامح، وهذا النموذج يتوقف ترتيب ملامحه على العاملين الآخرين وهما البيئة والثقافة.
فربما يخلق نموذجًا جديدًا إلا أنه يكون عبارة عن تراكيب بيئته أو ملامح مستوحاة من نماذج منتقاة مختلفة من الطبيعة البيئية التي يحيا فيها الفرد. وإن اتسعت هذه البيئة ربما أُعطى الفرد فرصة في أن ينتقي نماذج من بيئات أخرى.
ولنعطي مثلاً يوضح ذلك، لو أن شخصًا يحيا في بيئة ريفية فإن نموذج الجمال الذي يتخيله هو نموذج يتكون من عدة مشاهدات منتقاة من محيط بيئته، وإذا اتسعت دائرة هذا الشخص كأن انفتح على بيئات أخرى ولو بالمشاهدة فقط يتخيل نموذجًا مشوهًا –في ذاكرته إن تحقق- لهذا الجمال.
والانفتاح البيئي يختلف في ناحية ما ويؤثر أقل من البعد الثقافي، فإن ضاق الأفق الثقافي كان تلمس الجمال متوقفًا على الواقع الملموس فقط دون إعطاء فرصة للمخيلة الشخصية أن تعمل عملها، ويكون التناول المادي للجمال هو السمة الرئيسة في وضع النموذج، ومن ثم يحصر الشخص نفسه أو يكون هو محصورًا – لا إراديًا- في الواقع المادي الفقير بالطبع في معطيات الجمال ومفرداته.
والعكس فإن الانفتاح الثقافي هو البادئة المحركة لاتساع المخيلة، وتدخل في تكوين المعايير في هذه الحالة أشياء أخرى كالمدد الروحاني المستمد والمستلهم من تفاعل الثقافات بما تحويه من نظرات متغيرة تناولت مفهوم الجمال. والجمال يتعلق بأشياء هي الناظر والمنظور، والناظر هنا هو من يتأثر بالعوامل سابقة الذكر، والمنظور هو كل متغير نحكم عليه بالجمال من عدمه.
ومن هذه المنظورات الفن الذي يعد وسيلة التعبير الأرقى عن المشاعر الإنسانية باختلاف أوجهها. ومسارات الفن هي الطرق التي من خلال سلكها نستطيع الوقوف على ماهية كنه جمال الفن نوعًا وأسلوبًا وتعبيرًا وأداءً.
ولذا نجد أن هذه المسارات قد تغطيها –إن صح التعبير- مجموعة من الآليات التي تضفي إسقاطات على شخصية المتلقي من خلالها يحكم –سلبًا أو إيجابًا- على هذا الفن.
وأيًا كان الأمر فالفن كمؤدى طبيعي يصل إلى الطبيعة البكر الإنسانية وهذا هو منفذ الدخول الأول للفن إلى داخل الشخصية ومن ثم لا نستطيع الحكم على الفن بشتى صوره من الوهلة الأولى، ولذا نحتاج إلى إعمال العقل والفكر في مؤدى الفن لنقف على كنه جماله أو قبحه، والفن كما ذكرنا من قبل هو نتاج التفاعل الإيجابي مع المتغيرات في ظل التزامن التلقائي الذي يعيش فيه مؤدي ذلك الفن سواء كان شاعرًا أو موسيقيًا أو حتى راقصًا.