الأنبا بولا.. "العقل السياسي" للكنيسة المصرية
دارت حوله أقاويل كثيرة، ونصبت له منصات خاصة لأطلاق صواريخ تستهدف تشويهه، لكنه ظل صامدًا لأكثر من 27 عامًا دون أن يتراجع أو يتأثر بما يدور حوله، وهى نفس مدة تجليسة على كرسيه التى كان يحتفل بذكراها شعب أيبارشيته معه مؤخرا، فى الوقت الذى تولى مسئوليات مصيرية وفارقة فى الكنيسة بمفرده، وكان يباشرها جميعا فى وقت واحد.
وتولى الأنبا بولا "أسقف طنطا" ملف الأحوال الشخصية وإدارة المجلس الأكليركى العام بكافة مشاكله لسنوات طويلة، فى الوقت الذى منعت فيه الكنيسة الطلاق سوى لعلة الزنا، بينما كان يسعى لأيجاد ثغرة منطقية ذات حجج وأدلة للتصريح بالزواج الثانى للراغبين فى الأنفصال ممن فقدوا الأمل فى أى محاولات للتوافق فيما بينهم، دون الخروج عن قوانين العقيدة الأرثوذكسية.
مظاهرات ومؤتمرات صحفية عديدة نظمتها روابط الأحوال الشخصية ضده، وقالت عنه إنه أسقف ديكتاتورى يمارس القمع عليهم ويمنعهم من ممارسة حقهم الأنسانى فى الأرتباط بعد فشل زيجتهم الأولى، فلم يكن امامه سوى القبول بعرض قناة c t v المملوكة للكنيسة بتقديم برنامج تحت اسم "بيت على الصخر" مع الأعلامية دينا عبد الكريم، للرد على أستفسارات متضررى قضايا الأحوال الشخصية من الأقباط من خلال رسائلهم البريدية أو مداخلاتهم التليفونية، حتى حدث انقلابا فى عهد البابا تواضروس الثانى على سياسة الملف.
وتم تقسيم المجلس الأكليركى إلى عدة مجالس فرعية على مستوى الجمهورية والمهجر، وأعادة هيكلة الشكل الادارى له، وأنحصر دور الأنبا بولا فى إدارة مجلس أيبارشية أستراليا بخلاف ايبارشيته ليطير بشكل دورى إلى هناك لمتابعة أحوال رعيته الجديدة حتى صدور قانون الأحوال الشخصية الجديد الذى يدرس فى البرلمان، وهو القانون الذى أستنفذ جهدا من الرجل الذى بذل مساعى كثيرة لتوفيق الأوضاع والرؤى بين الطوائف المسيحية الثلاث مع أختلاف أيديولوجية كل منها.
يمتلك الأنبا بولا شخصية غاية الدقة فى مواعيدها وترتيباتها وتحركاتها، فهو معروف بمواعيده المنضبطة، حتى أنه يعتذر عن الموعد اذا تأخر الضيف لأكثر من عشر دقائق، بالأضافة إلى لباقته فى الحديث وقدرته الجدلية على التحليل المنطقى، وتجلت دقته أيضا فى ترتيب جنازة البابا الراحل شنودة الثالث فى الكاتدرائية بالتنسيق مع اللواء حمدى بدين قائد قوات الشرطة العسكرية وقتها ثم مراسم الأنتخابات البابوية بكل ما حملته من عراقيل، ثم دوره السياسي منذ أن وقع أختيار البابا تواضروس عليه ليتولى الملف السياسي للكنيسة ويكون حلقة الوصل بينها وبين الدولة، فخرج يلملم أوراقة ويعد العدة للدور الأكثر صعوبة الذى كلف به فى زمن الإخوان، ليمثل الكنيسة فى تأسيسية الدستور وما شابها من كر وفر بينه وبينهم، حتى أتخذ خطوة الأنسحاب المفاجىء كورقة ضغط عليهم لضمان وضع آمن للأقباط فى الدستور، وكانت المفاجأة أتصال أحدى الجهات الأمنية به لتثنى على موقفه وقتها وتبلغة بدعمها له.
ولعل السبب الحقيقي الذى دفع البابا بأصدار قرارا رسميا لتوليه الملف السياسى، هو وضعه فى مفاضلة بينة وبين سكرتير المقر البابوى القس أنجيلوس أسحق، خلال تزكيات مرشحى قائمة حب مصر، التى بادر أسحق بأرسال أسماء بعض محاسيبه لها بالمجاملة، فما كان بالأنبا بولا أن أبلغ البابا بأنزعاجه من الأمر، فأختار البابا أعادة الأمور لنصابها وتوكيل الأنبا بولا لادارة الشئون السياسية برمتها، ورغم أن ذلك الملف مستحدثا فى الكنيسة بأعتبار أنها لا تتدخل فى السياسة، الا أن البابا والمجمع المقدس لم يكن أمامهم سوى أختيار مفوضا يثقون به، و يمتلك من القدرات الثقافية والحنكة السياسية ما يؤهله للعب هذا الدور بجدارة، حتى لو تغيير مسماه إلى الملف الوطنى فى بعض الأحيان.
أغلق الباب فى وجه عشرات العرابين من نشطاء "السبوبة"، الذين كانوا يريدون أن يبيعون الوهم للمرشحين منتحلين صفات كنسية خلال انتخابات مجلس الشعب، فكان يفضحهم تباعا ويحذر من التعامل معهم، بخلاف حزمة الشديد مع عدد من الكيانات القبطية التى تدعى دفاعها عن الأقباط المظلومين مثل اتحاد ماسبيرو، ومؤسسة الحق والضلال، وغيرها من المجموعات الهلامية التى تستغل الاحداث الطائفية للتخديم على أجندات مشبوهة.
وخرج العقل السياسي للكنيسة ليبدى رأيه علانية فى كل المحطات التليفزيونية والصحف بدعمة التام للرئيس السيسي الذى كان يتنافس مع حمدين صباحى فى الانتخابات الرئاسية آنذاك، معربا عن أقتناعه التام برأيه الشخصى الذى لا يفرضه على أحد، فكل خطوة للأمام كان يخطوها يزيد رصيده لدى البابا تواضروس الذى لا يتوانى عن استشارته فى أى قضية سياسية كبرى يخرج منها بحرفية مطلقة.
ورغم من كل هذه الأثقال الا أنه يحمل على عاتقة أيضا مشروع قانون دور العبادة الموحد الذى ظل حبيس الأدراج لعدة حقب زمنية، حتى قدمه فى صورة مقترحات جرى نقاشها فى حوالى أكثر من 12 جلسة مغلقة بينه وبين مجدى العجاتى وزير الشئون القانونية ومجلس النواب، وانتهت برفض بعضها وطرح بدائل لها للنقاش مع النواب الأقباط فى جلسة سرية تمت بكنيسة العذراء والقديس اثناسيوس بحى مدينة نصر، تولت تنسيقها النائبة سوزى ناشد، فى الوقت الذى انتفض فيه بعضهم من الرافضين لسياسة الجلسة التى لم يوافق فيها أسقف طنطا عرض المسودة النهائية عليهم الا انه تدخل لهم وعمل على أقناع البابا بلقائهم رغم رفضه مقابلة النواب الأقباط وحدهم وتفضيلة لعدم سياسة الفرز الا انه رضخ لالحاحهم وتمكن من أحتواء الموقف بحكمة بدلا من أشعال أزمة بين النواب الأقباط والكنيسة فى وقت دقيق وحساس.
الأنبا بولا أو عزمى أنيس سعد، البالغ من العمر 65 عاما، مازال محتفظًا بنشاطه وذاكرته اليقظة، فهو يحافظ على مواقيت نومة وأستيقاظة مبكرا رغم أن أحيانا تفرض الظروف عليه مواصلة الليل بالنهار لأنجاز تكليف كنسي أو خدمة رعوية داخل أيبارشيته كما هى طبيعة الفلاحين فى مسقط رأسه بكفر الشيخ ولا يفضل دوما الأعتماد على أحد فى تحركاته حتى انه يقود سيارته بنفسه فى كل سفرياته وتنقلاته بينما يفوض سكرتير مطرانيته فقط القمص فلوباتير ميشيل للقيام باعماله حال غيابه أو مرضه ومع ذلك يكون متواصل معه بشكل منتظم.
وأوضح مصدر كنسي أن الأنبا بولا هو الشقيق الأوسط لخمسة أشقاء أخرين، لكنه كان أكثرهم قربا لوالديه، وكان يقضى طلبات المنزل بأكملها ومتحملا مسئولية الإدارة منذ نعومة أظافره، وقد كان متفوقا فى دراسته بشكل كبير وحصل على بكالوريوس العلوم والجيولوجيا من جامعة طنطا، لكنه لم يعمل بها لأن حلم الرهبنة كان يراوده بأستمرار ودخل لقضاء فترة تجنيده عقب أتمام دراسته، وعند سؤال اللجنة الأشرافية له عن رغبته فى التطوع كضابط أحتياط رفض وصمم أن يكون جنديا لكى ينتهى بشكل أسرع ويستطيع دخول الدير وبالفعل تم انتدابه فى مركز تدريب القيادة والصواريخ بأسوان وأستطاع التقرب من قادته بروحه الفكاهية وذكائه الفطرى بينما كان يمتنع عن الخروج لتناول الطعام مع زملائه ويحتفظ ببعض المواد الغذائية فى حقيبته لتناولها عند شعوره بالجوع وقد حدثت مفاجأة عند انتهائه من فترة خدمته بالتزامن مع وصوله خطاب التعيين من جامعة القاهرة كمدرس بقسم الجيولوجيا أن ضاع ملفه العسكرى وأستغل الأمر كحجة للمماطلة فى قبول التعيين حتى تولدت حالة من قبول الأمر الواقع لدى عائلته بالموافقة على رهبنته، وساعده الأنبا بيشوى (مطران دمياط وكفر الشيخ ) فى دخول الدير وتوسط له لدى البابا الراحل حتى رسمه راهبا فى دير البراموس بوادى النطرون .
لم يتوقف نشاط الرجل على الأداريات فقط، لكنه أفتتح مؤخرا مؤسسة تحمل اسم (المخترع الصغير) وهى فى الأصل عبارة عن حقل ثقافى لتنمية المواهب العلمية لدى الأجيال الجديدة فى أيبارشيته وينقسم الى 3 اقسام وهى (المبرمج الصغير والمخترع الصغير و المهندس الصغير)، ويديره مجموعه من المهندسين والمدربين، واساتذه العلوم ويدرس فيه أيضا علوم الطاقة والفيزياء والضوء مع عمل مسابقات دورية نظير جوائز متفاوتة بحسب ترتيب الفائزين.