تفسير قوله تعالى: " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين "
[ ص: 316 ] ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ( 25 ) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( 26 ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ( 27 ) )
يخبر تعالى عن نوح - عليه السلام - وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه : ( إني لكم نذير مبين ) أي : ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ; ولهذا قال : ( أن لا تعبدوا إلا الله ) وقوله ( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذابا أليما موجعا شاقا في الدار الآخرة .
( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ) والملأ هم : السادة والكبراء من الكافرين منهم : ( ما نراك إلا بشرا مثلنا ) أي : لست بملك ، ولكنك بشر ، فكيف أوحي إليك من دوننا ؟ ثم ما نراك اتبعك إلا أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء [ منا ] ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن ترو منهم ولا فكرة ولا نظر ، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك ; ولهذا قال : ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) أي : في أول بادئ الرأي ، ( وما نرى لكم علينا من فضل ) يقولون : ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق ، ولا رزق ولا حال ، لما دخلتم في دينكم هذا ، ( بل نظنكم كاذبين ) أي : فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة ، والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها .
هذا اعتراض الكافرين على نوح ، عليه السلام ، وأتباعه ، وذلك دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه ، فإن الحق في نفسه صحيح ، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ، ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأراذل ، ولو كانوا أغنياء . ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس ، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته ، كما قال تعالى : ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) [ الزخرف : 23 ] ، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال هرقل : هم أتباع الرسل .
وقولهم ) بادي الرأي ) ليس بمذمة ولا عيب; لأن الحق إذا وضح لا يبقى للتروي ولا للفكر مجال ، بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء ولا يفكر وينزوي هاهنا إلا عيي أو غبي . والرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، إنما جاءوا بأمر جلي واضح .
وقد [ ص: 317 ] جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر ، فإنه لم يتلعثم " أي : ما تردد ولا تروى ، لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا ، فبادر إليه وسارع .
وقولهم : ( وما نرى لكم علينا من فضل ) هم لا يرون ذلك; لأنهم عمي عن الحق ، لا يسمعون ولا يبصرون : بل هم في ريبهم يترددون ، في ظلمات الجهل يعمهون ، وهم الأفاكون الكاذبون ، الأقلون الأرذلون ، وفي الآخرة هم الأخسرون .