شفيعات الأقباط.. الشفاعة على أعتاب المحبة

العدد الأسبوعي

فتاة تتبرك بـ«الشهيدة
فتاة تتبرك بـ«الشهيدة دميانة»

يتبرك بهن الأرثوذكس ويقدمون لهن النذور فى احتفالات العذراء

■ دميانة.. شيدت أول دير نسائى فى العالم ودفعت حياتها ثمنًا للاعتراف بالإيمان المسيحى

■ «فيرينا» .. الممرضة الصعيدية التى علمت أوروبا النظافة


الشفاعة لدى الأقباط هى المحبة، والوسيلة التى تدخل إلى قلوبهم السعادة، وفى أغسطس من كل عام، تستعد الكنيسة الأرثوذكسية لاستقبال احتفالات السيدة العذراء، التى تستمر طيلة 14 يوماً متصلة، يكثر فيها الأقباط من الترانيم والصلوات فى الكنائس وتأدية النذور، والتقرب من القديسين وزيارتهم، وطلب الشفاعة منهم.

وتعتبر السيدة العذراء هى أم جميع القديسات، اللواتى يحرص الأقباط على زيارتهن، وتأدية النذور لهن، تنفيذّا لوصية الإنجيل، فى «رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 13: 7»: اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ.»

سير القديسات تملأ جميع كنائس العالم، ووراء كل منها حكاية طويلة تؤرخ لحياة كل قديسة ونشأتها وتعليمها وتفاصيل حياتها بالكامل، وفى مصر اعتاد الأقباط فى شهر مايو من كل عام على إحياء ذكرى الشهيدة «دميانة»، التى دفعت حياتها ثمنًا للاعتراف بالإيمان المسيحى ورفض عبادة الأصنام، فى القرن الثالث الميلادى، وذلك بعدما شيدت أول دير نسائى فى العالم كله، لتصل «مصر» بذلك إلى الصدارة فى الشأن الرهبانى حيث كان أول راهب فى العالم مصرى الجنسية وهو الملياردير المصرى «أنطونيوس الكبير»، والذى ولد فى بنى سويف، وكذلك أول راهبة أيضًا وهى دميانة ابنة والى «البرلس».

آلاف الأقباط يذهبون إلى دير «دميانة» لمنطقة البرارى لنيل بركتها وطلب الشفاعة منها، داخله تجد عددا كبيرا من الراهبات القبطيات الأرثوذكس، اللواتى يرتدين الزى الأسود، ويعتكفن فى ديرهن طوال العام، متفرغات للصوم والصلاة فقط، بالإضافة إلى العمل الذى يخصص لكل منهن، ويشرف عليه الأنبا بيشوى مطران دمياط وكفر الشيخ.

تفاصيل حياتها بالكامل سطرها التاريخ الكنسى، فهى أول فتاة تتفرغ للصوم والصلاة فى العالم، حيث ولدت دميانة ابنة الوالى مرقس، والى منطقة البرلس والزعفران، فى أواخر القرن الثالث الميلادى، من والدين مسيحيين، فى عصر اشتدت فيه عبادة الوثن والصنم والشرك بالله، إلا أنه بعد فترة من إتمامها العام الأول توفيت والدتها، لتكمل بقية عمرها يتيمة الأم، وفى سن الثامنة عشرة من عمرها، وبعدما رفضت «دميانة» الزواج بشكل رسمى، بنى لها والدها الوالى، قصرًا كبيرًا فى منطقة الزعفران، لتتفرغ فيه للعبادة والصوم والصلوات.

والدها أنكر الإيمان المسيحى بالاستجابة للإمبراطور الوثنى «دقلديانوس»- وهو أشهر أباطرة الرومان فى اضطهاد المسيحيين فى ذلك العصر، حيث سال على يديه دماء ما يقرب من مليون مسيحي- من خلال تقديم البخور إلى الألهة الوثنية المصنوعة من حجر، إلا أن ابنته «دميانة» خرجت من اعتكافها وتفرغها الدائم للصلوات، لتلتقيه وتدفعه للعدول عن قراره الأخير وإعلان إيمانه بالمسيحية، حتى وإن تسبب ذلك فى موته.

تعنيف دميانة لوالدها، جاء كالصاعقة عليه، لاسيما أن ضميره كان يؤرقه بعدما أنكر الإيمان المسيحى، وبخر للأوثان استجابة للإمبراطور الرومانى دقلديانوس، الأمر الذى دفعه للعدول عن موقفه سريعًا وإعلان تمسكه بالإيمان المسيحى، ما ترتب عليه قطع رأسه، وعلم الإمبراطور دقلديانوس أن ابنة مرقس هى السبب فى كل ما حدث فأمر بالقبض عليها، فحذرت الأربعين فتاة اللواتى كن معها فى القصر، وطلبت من الخائفات منهن الهرب، إلا أنهن أصررن على البقاء معها.

تعرضت دميانة لأشكال عديدة من التعذيب، لإجبارها على ترك الإيمان المسيحى، منها: العصر فى معصرة حديدية تُسمى «الهنبازين»، وسلخ الجلد، والكى بالجير والخل، وقلع العينين وكسر الجمجمة، وتمشيط الجسم بأمشاط حديدية، وأخيرًا قطعت رقبتها هى والأربعون فتاة المصاحبات لها فى قصرها المخصص للصلاة والصوم.

رحلة الشقاء والعناء التى واجهتها دميانة فى تمسكها بالديانة المسيحية كانت هى السبب الرئيسى فى احتفاء الكنيسة الأرثوذكسية بذكراها مهما مضت عليها قرون من الزمن.

لكن «دميانة» ليست هى القديسة المصرية الوحيدة التى تحتفى بها الكنيسة الأرثوذكسية، فهناك الأرملة الصعيدية رفقة وأبناؤها الخمسة، والفتاة الجيزاوية مهراتى، والعذراء الصعيدية فيرينا والتى كانت السبب فى أن تتعلم أوروبا بأكملها النظافة.

من الصعيد المصرى، وتحديدًا مركز قوص بجوار الأقصر محافظة قنا، توجد بلدة «الست رفقة» الأرملة والأم لخمسة أبناء وهم أغاثون وبطرس ويوحنا وآمون وأمونة، حيث تؤكد كتب التاريخ القبطى، أن رفقة وأبناؤها رأوا جميعاً رؤية تُفيد أنهم سيلقون حتفهم ثمنًا للاعتراف بالإيمان المسيحى، ما أشعل عزيمتهم حينما حضرت إلى قريتهم «دورية» للاطمئنان على أن المسيحيين المتواجدين بالصعيد قد تقدموا بالقرابين للألهة الوثنية، فاعترف الستة أفراد بالإيمان المسيحى.

تلك العائلة المسيحية أُرسلت بأكملها إلى المحاكمة على يد والى الإسكندرية أرمانيوس والذى كان مشهورا بقسوته، حيث قام بتكسير أسنانهم، وتقطيع أعضائهم وكى جراحاتهم بالجير والخل، وحرقهم بالنار، وفى آخر الأمر قطعت رءوسهم، ودفنت أجسادهم بكنيسة بمنطقة سناط بمحافظة الغربية.

أكبر سبب لتكريم الكنيسة لـ«الست رفقة» هو تغلبها على مشاعر الأمومة، حيث تعتبر من القلائل اللواتى قدمن أبنائهن للموت، بيدهن حتى لا يضعفن ويعبدن الوثن أو يشركوا بالله.

فى نفس عصر الإمبراطور دقلديانوس، استشهدت فتاة صغيرة من منطقة طموه بالجيزة، تُدعى «مهراتي»، ابنة قس يُدعى يؤانس، تُكرمها أيضًا الكنيسة كونها طفلة لم يتعد عمرها الـ12 عاما، إلا أنها وقفت أمام أشد الأباطرة شرًا، لتدافع عن إيمانها المسيحى، وتلعن الألهة الوثنية لتصفها بالحجارة الصماء، فوضعها فى صندوق فى الماء وبه ثعابين وعقارب سامة، حتى توفيت.

أما «فيرينا» فهى ممرضة صعيدية من مدينة كركوز بمركز قوص محافظة قنا، والتحقت بالكتيبة الطبية التى أرسلتها إلى أوروبا، بسبب قرابتها للقديس فيكتور أحد أفراد هذه الكتيبة.

بعدما استشهد أفراد الكتيبة الطبية والتى كانت ملتحقة بها فيرينا، بعد إعلان إيمانهم بالمسيحية ورفض الشرك بالله وعبادة الحجارة، سكنت فيرينا فى كهف فى سولوثورن Solothurn فى سويسرا حاليًا، وكانت تخرج من هذا الكهف إلى القرى المحيطة لتقدم أعمال الرحمة والمحبة للفلاحين والفقراء، وكانت تهتم اهتمامًا خاصًا بتعليمهم أصول النظافة الشخصية، والبروتوكولات والأفعال اللائقة وغير اللائقة، وذاع صيتها وأصبح الكثير يتعلم منها النظافة الشخصية ويتناقلون تعاليمها من مكان لآخر. ويتجلى الأمر فى صورتها، حيث يرسمها الفنانون فى يدها دلو ماء واليد الأخرى مُشط، دليل على النظافة الشخصية، وقضت بقية حياتها فى مغارة بُنِيت لها فى زُرزاخ Zurzach، حتى توفيت.