استحلال الخمر والإكثار من شربها من أشرط الساعة
عرف عن أهل الجاهلية شربهم للخمر فكانوا يحرصون عليها، ويبذلون الجهود لتحصيلها والاستمتاع بها، والإسراف في شربها، حتى أُشربت قلوبهم محبّتها، فالخمر كانت بالنسبة لهم الملاذ الآمن من متاعب الحياة ومشاقّها، والعيش في عالم السعادة الزائفة، حيث لا حدود للأماني ولا سقف للخيال، وبلغ ولعُ العرب بها حدّاً كبيراً، ويمكن إدراك ذلك بالعودة إلى أشعار العرب قبل الجاهليّة، لنجد أحدهم يقول:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنـّــــــــني بالفـلاة فإنني أخـــاف إذا ما مت أن لا أذوقـها
وبقي في أهل الجاهليّة ثُلّةٌ قليلة لم تغرّها (منافع الخمر) ولم يحجب سترها الرقيق البالي مساوئ تعاطيها، وأدركت هذه الثُلّة تأثيرها على قوّة العقل والتفكير، واتزان الشعور والإدراك، فها هو عاصم المنقري -وقد كان من سادات العرب- يُعلن بغضه لأمّ الخبائث قائلاً:
رأيت الخمر منقصة وفيها مقابح تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربـهــا حيــاتي ولا أشفــي بها أبدا سقيـــما
ثم جاء الإسلام، فتدرّج في تحريم الخمر على عدّة مراحل معلومة ليس هذا مجالُ ذكرها، وحسبنا أن نعلم أن آخر تلك المراحل كانت التحريم القطعيّ الذي لا يزايله شكّ: { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (المائدة:90-91)، ومنذ ذلك اليوم انتهى الجميع عن معاقرتها كظاهرةٍ عامّة، وبقي من يُمارسها كحالاتٍ فرديّة خفيّة ويسيرة محدودة، تبقى في نظر الناس عملاً مستهجناً، وفعلاً دنيئاً.
ولكن الإنسان ظلومٌ جهول بطبعه، يتمادى في الغيّ ولا يرعوي عن الباطل، فلم يكتفِ في آخر الزمان بتقحّم الحرام والتوغّل فيه، حتى أصبح الحديث عن الخمر كأمرٍ معروفٍ ومعلوم يُجاهر فيه بالشرب علناً أمام الخلائق، ويبلغ الانحراف مداه بالتحايل على الشرع من خلال تسمية هذا المشروب بغير اسمه فضلاً عن ادّعاء حلّه، ليكون هذا الانحراف السلوكيّ والخلل التشريعي مظهراً جديداً تتجلّى فيه أشراط الساعة التي تحقّقت في أزماننا.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا) رواه البخاري ومسلم، والمقصود بشرب الخمر كما ذكر الشرّاح: كثرة ذلك واشتهاره، بدليل ما جاء في الرواية الأخرى للحديث، وفيه: (ويكثر شرب الخمر) وقد رواها البخاري كذلك.
وعن التحايل في الشرع وتسمية الخمر بغير اسمها، واستحلالها وإنكار تحريمها، ورد حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليستحلنّ طائفة من أمتي الخمر، باسم يسمّونها إياه ) رواه أحمد وابن ماجة.
وأقوى منه الحديث الذي رواه البخاري، وفيه وعيدٌ شديد في حقّ أصحاب هذه المعصية، فقد روى عبد الرحمن بن غنم الأشعري فقال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري -والله ما كذبني-: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ليكوننّ من أمتي أقوام، يستحلّون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب عَلَم، يروح عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجةٍ فيقولون: ارجع إلينا غداً. فيبيّتهم الله، ويضع العَلَم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) رواه البخاري.
والاستحلال هنا:اعتقاد حلّ شربها، والحِرَ: الزنا، والعَلَم هو الجبل، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: (يروح عليهم بسارحةٍ لهم) يعني يذهب إليهم الراعي بغنمهن، والتبييت: الإهلاك بالليل، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون} (الأعراف: 97)،والمقصود بلفظة: (ويضع العَلَم) دكّ الجبل حتى يقع على رؤوسهم.
والمعنى كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب جبل، فيواعدهم رجلٌ إلى الغد، فيهلكهم الله سبحانه وتعالى ليلاً، ويمسخ منهم آخرين قردة وخنازير، والأصل في المسخ الحقيقة لا المجاز، وإن كان معنى المجاز محتملاً، وعليه فالظاهر أن يحدث هذا المسخ على وجه الحقيقة.
والواقع يشهد بأن جزءاً كبيراً من هذه النبوءة قد تحقّق في زماننا، وإن كان السؤال الذي يرد هنا: كيف آلت الأمور إلى ذلك؟
نعلم من خلال دراسة التاريخ المعاصر أن الأمر قد بدأ بالاستعمار والاحتلال الأجنبي للشعوب المسلمة، في الفترة التي شهدت تقدّماً علميّاً وثورة صناعيّة في بلاد الغرب ، يُقابله تخلّف علميّ وانحطاط عقديّ خُلُقي في الدول التي تمّ استعمارها، ونتيجةً لذلك: نشأت أجيالٌ من المنبهرين بحضارة الغرب ممن قاموا بالربط غير الموفّق بين ضرورة التقدّم العلمي، وبين استجلاب جميع مظاهر الحضارة الغربيّة وعدم إخضاعها للفحص والتدقيق، فجعلوا طريق التقدّم الوحيد هو لبوس ثوب الغرب الذي لا تناسب مع قيمنا وشرعنا وإرثنا التاريخي والحضاري، مهما كان ضيق هذا الثوب وبغض النظر عما يحتويه من الدنس والنجس والرّجس.
ومما أسهم في شيوع هذه الظاهرة وذيوعها: الغزو الثقافي والضغط الإعلامي وآثاره التراكميّة، من خلال عرض أدبيّات (أهل الحضارة المزعومة) ومسلسلاتهم، ولا يكاد إنتاج إعلامي غربي يخلو من شرب الخمر أو ذكرها أو مدحها وإظهار أساليب صنعها، وعقد المسابقات لها، حتى استمرأ الناس النظرَ إليها وما عادوا يستقبحونها كالسابق، وبالطبع فقد تسلّل هذا الفساد الإعلامي إلى أوساطنا المجتمعيّة المسلمة، وبات أثرها التراكمي يذيب صخرة القناعات السابقة، خصوصاً عند من يُسمّون بالنُّخب الثافيّة ودعاة التغريب، ويكفي للتدليل على ذلك: الصور المعتادة في الكثير مما يُسمّى بالأفلام والمسلسلات التي تُعرض على القنوات، منها على سبيل المثال: صورة (الاستقراطي) الذي يُدخّن الغليون وبيده الأخرى كأس من المشروب المحرّم، وصورة اجتماع (التقدّمييّن) –بزعمهم، والتقدّم منهم براء- وكؤوس الخمر تُدار بينهم، وكذلك المشهد المتكرّر المألوف الذي يفجأنا في الدراما الرديئة: حين يُصاب (البطل) بمصيبةٍ في حياته، فيهرع إلى كؤوس الخمر فيعاقرها، لعلّه أن ينسى الهمّ الذي هو فيه!
وتزداد الصورةُ قتامةً حينما نرى الانتشار الواسع للخمور في الأوساط السياحيّة بحيث تًصبح في متناول أيديهم لاعتباراتٍ اقتصاديّة وسياحيّةٍ بحتة،فضلاً عن تسمية الخمور بغير اسمها، وتوصيفها بغير حقيقتها، وقد اقترعوا لها الكثير من الأسماء الجذّابة وليس (الخمر) منها، ووصوفها بأنها (مشروب روحي) ولا يخفي على لبيبٍ دلالات هذا الوصف ومقاصده.
نعم، لم تصل الأمور إلى حد (الانتشار الربوي) الذي تكلّمنا عنه في موضوعٍ سابق، لكن العجلة تتسارع، وإن نسبة 0.01% من شاربي الخمر في مجتمعٍ ما، هو حديثٌ عن آلافٍ تمارس هذا الفعل المحرّم، وهو رقمٌ مخيف بلا شك، ويستدعي من كافّة الشرفاء والمصلحين وقفةً حازمةً تحصّن مجتمعاتنا من الإفلاس القيمي الذي نجح بكل أسفٍ في التسلّل إليها.
ويكمن العلاج من خلال مسلكين:
المسلك الأوّل: بيان أن تسمية الأمور بغير اسمها لن يغيّر من الحقائق شيئاً، وسياج الشريعة محكم واضحٌ لا يمكن التلاعب به، فمتى وُجدت العلّة –وهي الإسكار كما يقول أهل الأصوليّون- ثبت الحكم حتى ولو أسمينا الخمر على سبيل التجوّز ماءً! أخذاً بحديث النبي –صلى الله عليه وسلم- الواضح الصريح: (كل شراب أسكر فهو حرام ) رواه البخاري، وحديث: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) رواه مسلم.
وإلى الذين يدعون جواز شرب الخمر وتحليلها يُقال لهم: إن من استحلّ ما حرّم الله فقد خرج عن دائرة الإسلام ولا شكّ، يقول الشيخ سليمان التميمي: " (وأما استحلال) المحرمات المجمع على حرمتها أو بالعكس، فهو كفرٌ اعتقادي؛ لأنه لا يجحد تحليل ما أحل الله ورسوله، أو تحريم ما حرم الله ورسوله، إلا معاند للإسلام ممتنع من التزام الأحكام، غير قابل للكتاب والسنة وإجماع الأمة".
ويقول القاضي عياض: "وكذا أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر، أو شيئا مما حرم الله بعد علم هذا بتحريمه".
وأما المسلك الثاني: فيتمثّل في الجهود التوعويّة التي تُذكّر بمقاصد الإسلام في الحفاظ على الضروريات الخمس ومنها العقل.
فالخمر يغيّب العقل ويمنعه من التفكير السوي، ولهذا المقصد العظيم في الحفاظ على الملكات والعقول، جاء النهي الصريح عن مقارفته، والأمر الصريح بمجانبته، على نحوٍ لا يمكن تأويله أو تحريفه، ولذلك يقول الإمام القرطبي: "قول الله سبحانه وتعالى: {فاجتنبوه} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا يُنتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشربٍ، ولا ببيعٍ، ولا تخليل، ولا مداواة، ولا غير ذلك"، وأخرج ابن ماجة من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تشربوا الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر).
ثم يأتي التذكير بما ورد من الترهيب والوعيد الشديد بحق المتعاملين مع الخمر، كمثل حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة) رواه مسلم، وحديث جابر رضي الله عنه، وفيه: (وإن على الله لعهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال: عرق أهل النار) رواه مسلم، وكذلك حديث أبي الرداء رضي الله عنه مرفوعاً: (لا يدخل الجنة مدمن خمر) رواه ابن ماجة.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاةٌ أربعين صباحاً، فإن تاب: تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب: تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب: تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال) قيل: يا أبا عبد الرحمن: وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار. رواه الترمذي.
فإن لم يلقَ هذا النصح والتذكير عند أهل الهوى صدى نتيجةً لضعف وازعهم الديني والأخلاقي، وعدم اكتراثهم بالحقائق الشرعيّة، فلا أقل من تذكيرهم بالآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة المدمّرة لشرب الخمور، وأثره في التفكّك الأسري وما ينتج عنه من ضياع الأولاد وزيادة حالات الطلاق، فضلاً عن الأضرار الصحيّة التي أثبتت الدراسات الحديثة وجودها عند مدمني هذه المشروبات المحرّمة، وما يذكره الأطباء من سلسلةٍ طويلة من الأمراض المزمنة والسرطانات الفتّاكة، ألا يُقال بعد ذلك كلّه: الخمر أم الخبائث؟!