تفسير قوله تعالي"ونعم أجر العاملين"
من الآيات التي ختمت بألفاظ متشابهة الآيتان التاليتان:
قوله سبحانه: {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} (آل عمران:136).
قوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} (العنكبوت:58).
ختمت الآية بقوله سبحانه: {ونعم أجر العاملين} فجاءت الجملة معطوفة بحرف (الواو)، وختمت الآية الثانية بقوله تعالى: {نعم أجر العاملين} فجاءت الجملة من غير عطف.
والسؤال الذي يرد هنا: لماذا جاء ختام الآية الأولى معطوفاً بحرف الواو، وجاء ختام الآية الثانية خالياً من العطف؟
لم نقف على كلام في هذا في التفاسير المعتمدة، لكن الذين كتبوا في متشابه القرآن أجابوا عن هذا السؤال بأجوبة قريبة:
وحاصل كلام الإسكافي في هذا: أن الآية في سورة آل عمران مبنية على تداخل الأخبار؛ لأن أولها: {جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}، فـ {أولئك} مبتدأ، و{جزاؤهم} مبتدأ ثان، و{مغفرة} خبر المبتدأ الثاني، وهو مع خبره خبر عن المبتدأ الأول، والجزاء هو الأجر، فكأنه قال: أولئك أجرهم على أعمالهم محو ذنوبهم، وإدامة نعمهم، وهذا الأجر مفضل على كل أجر يعطاه عامل على عمله، فنُسِّقت الأخبار بعضها على بعض؛ للتنبيه على النِّعم التي هيئت للعاملين وَفْقَ ما شرعه الله سبحانه.
و(الخبر) إذا جاء بعد خبر في سياق تفصَّل فيه المواهب المرغب فيها، فحقه أن يُعطف على ما قبله بـ (الواو)، كقولك: هذا جزاء كذا وكذا، أي: هو ترك المؤاخذة بالذنب، والتنعم في جنة الخلد، وتفضيله على كل جزاء جوزي به عامل، وذلك تشريف وكرامة.
وأما الآية التي في سورة العنكبوت، فإن ما قبلها مبني على أن يدرج الكلام فيه على جملة واحدة، وهي: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين}، فقوله: {والذين آمنوا} مبتدأ، وقوله: {لنبوئنهم} جملة فعلية في موضع الخبر، وهذا الخبر يتصل به مفعولان، الأول: (هم) والثاني {غرفا}، و{غرفا} نكرة موصوفة بقوله: {تجري من تحتها الأنهار}، وقوله: {خالدين فيها} حال من {لنبوئنهم}.
فلما جُعلت هذه الأشياء كلها في درج كلام واحد، وهي جملة ابتداء وخبر، واحتمل {نعم أجر العاملين} أن تجيء بـ (الواو) وأن تجيء من دونها، اختير مجيئها بغير (واو)؛ ليشبه ما تقدم من صفة الخبر، لا على سبيل العطف عليها، والنسق بها. هذا حاصل ما ذكره الإسكافي.
وذكر احتمالاً آخر وهو أن يكون قوله سبحانه: {نعم أجر العاملين} في موضع خبر ومبتدأ، كأنه قال: (ذلك نعم أجر العاملين)، ويكون قوله: (ذلك) إشارة إلى ما ذكر الله من إسكانهم الجنة، فيجري بلا (واو) مجرى ما هو من تمام الكلام، كقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير} (الشورى:22)، فقوله: {ذلك} وإن انقطع عن الأول في اللفظ، فإنه متصل به من طريق المعنى، فكأنه قال: {لهم ما يشاؤون عند ربهم} مشار إليه بأنه الفضل الكبير.
فقوله عز وجل: {نعم أجر العاملين} أي: ذلك نعم أجر العاملين، والمعنى مشار إليه بتفضيل على أجور العاملين. وإذا كان الأمر على ما ذُكِرَ في الآيتين لم يَلِقْ بكل واحدة منهما إلا ما جاءت به.
وقريب مما ذكره الخطيب الإسكافي ما قاله ابن الزبير الغرناطي في توجيه هذا الاختلاف، فقد ذكر أن آية آل عمران لما وقع فيها ذكر (الجزاء) مفصلاً معطوفاً، فقيل: {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} ناسبه عطف الجملة الممدوح بها الجزاء، فقيل: {ونعم أجر العاملين}، ولما لم يفصِّل الجزاء في سورة العنكبوت، ولا وقع فيه عطف، جاءت جملة المدح غير معطوفة ليتناسب النظم.
ونسج ابن جماعة على المنوال نفسه في الجواب على الفرق بين الآيتين، فقال: لما تقدم عطف الأوصاف المتقدمة، وهي قوله: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} (آل عمران:134)، {والذين إذا فعلوا فاحشة} (آل عمران:135)، {ولم يصروا} (آل عمران:135)، و{جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات}، و(خلود) ناسب ذلك العطف بـ (الواو) المؤذنة بالتعدد والتفخيم. ولم يتقدم مثله في سورة العنكبوت، فجاءت بغير (واو)، كأنه تمام الجملة.
وغير بعيد مما تقدم، ما ذكره ابن عاشور، حيث اعتبر أن قوله سبحانه: {نعم أجر العاملين}، كلام جديد مقطوع عن سابقه، وهو إنشاء ثناء وتعجيب على الأجر الذي أعطوه، فلذلك قُطِعت عن العطف، بخلاف ما عليه الحال في سورة آل عمران.