حكم التجويد في قراءة القرآن الكريم
القرآن الكريم كتاب الله تعالى، المنزل على رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المعجز في لفظه ومعناه، المتعبد بتلاوته، والمنقول عنه نقلاً متواتراً. وهو الكتاب الذي تكفل الله بحفظه، وصانه من التحريف والتبديل، قال سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9).
ومن العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم علم التجويد، وهو علم جليل، يُعرف به كيفية تلاوة القرآن قراءة صحيحة متقنة، يقيم مبناه، ويحفظ معناه، وتعلمه يُعين المسلم على تلاوة القرآن الكريم حق التلاوة، قال عز من قائل: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} (البقرة:121).
تعريف التجويد
و(التجويد) لغة: التحسين والإتقان، يقال: جودت الشيء تجويداً، أي: حسنته تحسيناً، وأتقنته إتقاناً. وتقول: هذا شيء جيد، أي: حسن. فهو مصدر من جود تجويداً، إذا أتى بالقراءة مجودة الألفاظ، بريئة من الجور في النطق بها.
و(التجويد) في اصطلاح علماء التجويد: علم يبحث في الكلمات القرآنية من حيث إعطاء الحروف حقها من الصفات اللازمة التي لا تفارقها، كالاستعلاء، والاستفال، أو مستحقها من الأحكام الناشئة عن تلك الصفات: كالتفخيم والترقيق، والإدغام والإظهار، وغير ذلك من الأحكام. قال ابن الجزري في تعريفه: "إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه، وتلطيف النطق به، على حال صيغته وهيئته، من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف".
الغاية من التجويد
الغاية من علم التجويد هي تمكين القارئ من جودة قراءة القرآن، وحسن أدائه، وعصمة لسانه من اللحن (الخطأ) عند تلاوة القرآن الكريم، كي ينال رضا ربه، وتتحقق له السعادة في الدنيا والآخرة. فـ (التجويد) كما قال ابن الجزري: "هو حلية التلاوة، وزينة القراءة".
حكم قراءة القرآن بالتجويد
لا خلاف بين أهل العلم أن تعلم أحكام التجويد من الناحية النظرية هو فرض كفاية، لا فرض عين، فليس من الواجب على كل مسلم تعلم علم التجويد، إلا أن الواجب أن يتصدى لهذا العلم بعض العلماء، ليرتفع الإثم عن الباقين، قال تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم} (التوبة:122)، ودراسة علم التجويد من التفقه في الدين، فإذا قام بتعلمه وتعليمه جماعة من خاصة الناس، سقط عن عامتهم.
بيد أن العلماء اختلفوا في حكم قراءة القرآن بالتجويد، وهل يجب على كل مسلم أن يقرأ القرآن الكريم قراءة مجودة، يستوفي فيها أحكام التجويد؟ وهل يأثم من لم يراع أحكام التجويد في قراءته للقرآن الكريم؟ والعلماء في هذا على قولين:
القول الأول: وهو رأي علماء التجويد القائلين بأن قراءة القرآن بالتجويد واجب على كل مسلم ومسلمة؛ أخذاً بظواهر الأدلة.
القول الثاني: وهو رأي الفقهاء الذين يرون أن قراءة القرآن بمراعاة أحكام التجويد وقواعده سنة وأدب من آداب التلاوة، ينبغي مراعاته من غير تكلف، ولكن ذلك ليس واجباً.
ومن أقوال المتقدمين الدالة على القول بالوجوب ما قاله أبو عمرو الداني، بعد أن ذكر جملة من الأدلة القرآنية والنبوية التي تفيد أهمية قراءة القرآن بالتجويد، قال: "وما قدمناه دال على توكيد علم التجويد، والأخذ بالتحقيق"، وعبارة الداني تفيد القول بوجوب القراءة بالتجويد.
وذكر مكي بن أبي طالب كلاماً يفيد القول بالوجوب، قال في "الرعاية": "وليس قول المقرئ والقارئ: أنا أقرأ بطبعي، وأجد الصواب بعادتي في القراءة لهذه الحروف من غير أن أعرف شيئاً مما ذكرته بحجة، بل ذلك نقص ظاهر فيهما؛ لأن من كانت حجته هذه يصيب ولا يدري، ويخطئ ولا يدري؛ إذ علمه واعتماده على طبعه وعادة لسانه، يمضي معه أينما مضى به من اللفظ، ويذهب معه أينما ذهب، ولا يبني على أصل، ولا يقرأ على علم، ولا يقرأ عن فهم...فلا يرضين امرؤ لنفسه في كتاب الله جل ذكره، وتجويد ألفاظه إلا بأعلى الأمور، وأسلمها من الخطأ والزلل".
ومن أقوال المتقدمين القائلين بالوجوب قول نصر الشيرازي: "حسن الأداء فرض في القراءة، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حق تلاوته". وقال ابن الجزري: "ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن، وإقامة حدوده، كذلك هم متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة، والمتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم".
ومن المشايخ المعاصرين الذين نحو هذا المنحى الشيخ مساعد الطيار، فقد ذكر أن حروف القرآن وكيفية نطق هذه الحروف (أي: التجويد)، هما أمران متلازمان، لا يمكن أن ينفكَّ أحدهما عن الآخر، فمن قَبِلَ عنهم نقل الحروف، لزمه أن يقبل عنهم نقل الأداء (أي: التجويد). وإذا صحَّت هذه المقدمة، فإن قراءة القرآن وأداءه بما نُقِلَ عن هؤلاء الأئمة سنة يلزم الأخذ بها، ولا تصحُّ مخالفتها، أو تركها إلا بدليل قويِّ، يعترض به المعترض على علم التجويد.
أما النافين للوجوب، فلم ينفوا الوجوب من أصله، بل قالوا: إن الواجب من أحكام التجويد ما يقيم المبنى، ولا يخل بالمعنى، أما ما فوق ذلك فهو أمر مستحب غير واجب، قال علي القارئ: "وينبغي أن تراعى جميع قواعدهم وجوباً فيما يتغير به المبنى، ويفسد به المعنى، واستحباباً فيما يحسن به اللفظ، أو يستحسن به النطق حال الأداء"، قال: "وأما اللحن (الخطأ) الخفي، فلا يتصور أن يكون فرض عين، يترتب العقاب على قارئه؛ لما فيه من حرج عظيم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيمها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك؛ فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق بـ {أأنذرتهم} (البقرة:6) وضم الميم من {عليهم ولا الضالين} (الفاتحة:7) ووصلها بالواو، وكسر الهاء، أو ضمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت". وتابع ابن القيم شيخه فيما ذهب إليه.
وقال الشيخ السعدي في هذا الصدد: "إن التجويد بحسب القواعد المفصلة في كتب التجويد غير واجب".
أما الشيخ ابن باز رحمه الله فقد قال في فتوى له: "يجوز أن يُقرأ القرآن بغير الترتيبات والاصطلاحات التي ذكرها أصحاب التجويد، إذا قُرئ باللغة العربية قراءة واضحة، لكن إذا اعتنى بما ذكره القراء وبما ذكره أصحاب التجويد، فهذا حسن من باب تحسين القراءة؛ لقول النبي: (زينوا القرآن بأصواتكم) رواه أبو داود، وصححه الألباني، فإذا لاحظ الغنة والترقيق والتفخيم يكون أفضل، وإلا فليس بلازم -فيما يظهر لي- إذا قرأه القراءة الواضحة، ليس فيها خلل".
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أما التجويد فليس بواجب، التجويد تحسين للفظ فقط، وتحسين اللفظ بالقرآن لا شك أنه خير، وأنه أتم في حسن القراءة، لكن الوجوب بحيث نقول من لم يقرأ القرآن بالتجويد فهو آثم قول لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه"، فالقراءة بالتجويد بحسب راي الشيخ ابن عثيمين ليست بواجبة، وإنما الواجب إقامة الحركات، والنطق بالحروف على ما هي عليه، فلا يبدل الراء لاماً مثلاً، ولا الذال زاياً، وما أشبه ذلك، هذا هو الممنوع. وقال في فتوى له: "لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد، التي فُصِّلت بكتب التجويد، وإنما أرى أنها من باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير باب الإلزام... ولو قيل: إن العلم بأحكام التجويد المفصلة في كتب التجويد واجب، للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم".
وقريب من هذا ما ذهب إليه الشيخ محمد الحسن الددو، فقد ذكر أن القراءة بالتجويد ينتابها الأحكام الخمسة، فمنها ما هو واجب؛ وهو الذي إذا لم يأخذ به الإنسان أفسد قراءته. ومنها ما يأثم فاعله متعمداً، وهو الذي يقتضي اختلاط الحروف في مخارجها وصفاتها، أو إدغام بعض ما لا يدغم، أو إزالة بعض الحركات بالإشالة، والسرعة، كالهذرمة، ونحوها. ومنها يكون سنة مستحبة، وهو ما يقتضي تحسين القرآن وحسن تقطيعه، ويعين على تدبره، كالوقف في مواضع الوقف على التمام أو الكمال، ونحو ذلك. ومنه ما هو مكروه، وهو ما يكون كشكل الطرب، والغناء، ونحوهما. ومنه ما يكون محرماً، وهو ما يبالغ الإنسان فيه حتى يتقعر، ويخرج به الكلام عن أصله. ومنه ما يكون مندوباً عند طائفة من أهل العلم: وهو تحسين الصوت به حتى يكون أرق من صوته العادي، وذلك بأن يشجي صوته به، حتى يكون نديًّا شجيًّا.
وقال الشيخ صالح بن فوزان: "قراءة القرآن بالتجويد مستحبة من غير إفراط، وليست واجبة، وإنما الواجب تجويد القرآن من اللحن والخطأ في الإعراب".
أدلة القائلين بفرضية القراءة بالتجويد
استند القائلون بوجوب قراءة القرآن بالتجويد إلى جملة من الأدلة، نذكر منها:
- قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} (المزمل:4) قال صاحب "العين": "رتلت الكلام تمهلت فيه"، قالوا: إن صيغة الأمر تفيد وجوب الفعل، ولا يصرف عن الوجوب إلا بقرينة، ولا قرينة هنا، فبقيت صيغة الأمر على أصلها. فالمراد بالأمر بالترتيل: هو قراءة القرآن بتؤدة وطمأنينة وتمهل وتدبر، مع مراعاة قواعد التجويد. ولم يقتصر سبحانه على الأمر بالفعل، حتى أكده بمصدره {ترتيلاً} تعظيماً لشأنه، وترغيباً في ثوابه. ومن هذا الباب أيضاً قوله تعالى: {ورتلناه ترتيلا} (الفرقان:32) أي: أنزلناه على الترتيل، وهو التمكث، وهو ضد العجلة. وقال سبحانه: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} (الإسراء:106) أي: على ترسل.
- قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} (البقرة:121) فهناك من يتلون القرآن حق التلاوة، وهناك من يتلونه دون ذلك.
- أن قراءة القرآن وتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من الأئمة المسندين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة، وكل عبادة يجب أن تؤدى كاملة غير منقوصة؛ ليحصل لصاحبها الثواب كاملاً، وبقدر ما نقص منها مع القدرة على التمام نقص من الأجر والثواب، وبقدر التفريط لحق الإثم والعقاب، وإلى هذا أشار ابن الجزري بقوله: "ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية، التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها، والناس في ذلك بين محسن مأجور ومسيء آثم، أو معذور".
- ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه، وقد سئل عن كيفية قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم}، يمد {بسم الله} ويمد {الرحمن}، ويمد {الرحيم}. قال الداني: "وهذا حديث مخرج من الصحيح، وهو أصل في تحقيق القراءة، وتجويد الألفاظ، وإخراج الحروف من مواضعها، والنطق بها على مراتبها، وإيفائها صيغتها، وكل حق هو لها، من تلخيص وتبيين ومد وتمكين وإطباق وتفشٍّ وصفير وغنة وتكرير واستطالة، وغير ذلك، على مقدار الصيغة وطبع الخلقة، من غير زيادة ولا نقصان".
- ما رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة حرفاً حرفاً. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
- ما روي من أن ابن مسعود رضي الله عنه سمع قارئاً يقرأ: {إنما الصدقات للفقراء} (التوبة:60) فقصر قوله سبحانه: {للفقراء} -أي لم يقرأها بالمد- فقال ابن مسعود: (ما هكذا أقرأنيها صلى الله عليه وسلم، إنما أقرأنيها هكذا، فمد (الفقراء) رواه الطبراني في "معجمه الكبير" ورجال إسناده ثقات. وصححه الألباني، واحتج به. وهذا دليل على أن القراءة سنة متبعة، يأخذها الآخر عن الأول؛ ولهذا أنكر ابن مسعود قراءة القصر؛ لأن النبي أقرأه إياها بالمد، فدل ذلك على وجوب تلاوة القرآن تلاوة صحيحة موافقة لأحكام التجويد.
- أن الأسانيد المتواترة التي نُقلت بها قراءات القرآن عن القراء العشرة، وفيها أنهم رفعوا هذا، أو نصبوه، أو جروه، أو قرؤوه بالتاء، أو بالياء...هي نفس الأسانيد التي فيها أنهم فخموا هذا، أو رققوه، أو أدغموه، أو مدوه...فما دام لا يجوز مخالفة الرواية في فتح، أو ضم، أو كسر، فلا يجوز مخالفتها في صفة النطق بالحرف، وهي التجويد.
- كلام الفقهاء من المذاهب الأربعة في بطلان صلاة من ائتم بمن يلحن في قراءة الفاتحة، وتمثيلهم للحن بأشياء فيها إخلال بأحكام التجويد دليل على أنهم يقولون بوجوب قراءة القرآن مجوداً.
- من أحكام التجويد ما تؤدي مخالفته إلى تحريف معاني القرآن، كمن فخم التاء في {مستورا} (الإسراء:45) أو رقق الطاء في {مسطورا} (الإسراء:58)، فإنه يَلْبِس إحدى الكلمتين بالأخرى. وكذلك من فخم الذال في {محذورا} (الإسراء:57) أو رقق الظاء في {محظورا} (الإسراء:20)، لا يمكن لعاقل أن يقول بجواز هذا.
أدلة القائلين بعدم فرضية القراءة بالتجويد
يرى القائلون بعدم فرضية قراءة القرآن بالتجويد أن الأدلة النقلية التي استدل بها القائلون بالوجوب ليست صريحة في الدلالة على القول بالوجوب، بل غاية ما فيها الدلالة على وجوب إقامة الحروف إقامة صحيحة، ولا دلالة فيها على وجوب الأخذ بتفاصيل أحكام التجويد، يقول الشيخ ابن باز: "لا أعلم دليلاً شرعياً يدل على وجوب الالتزام بأحكام التجويد، أما قوله الله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا}، فهو يدل على شرعية التمهل بالقراءة وعدم العجلة، ويؤيده قول الله تعالى: {ورتلناه ترتيلا}.
وقالوا أيضاً: إن قوله سبحانه: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} لا دلالة فيه على وجوب التجويد عند تلاوة القرآن؛ لأن المراد بالآية -كما ذكر المفسرون- مدح من آمن من أهل الكتاب، أو أن المقصود بهم من إذا مرّ بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مرّ بذكر النار تعوّذ بالله من النار. وقيل غير ذلك، لكن لم يذكر المفسرون أن المراد بالآية القراءة بالتجويد، وإن كان معنى الآية يحتمل ذلك، لكن لا دلالة فيها على الوجوب، بل على الاستحباب.
واستدلوا أيضاً بما روي عن جابر رضي الله عنهما، أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرأ القرآن، وفينا العجمي والأعرابي. قال: فاستمع، فقال: (اقرؤوا؛ فكل حسن، وسيأتي قوم يقيمونه كما يقام القِدح؛ يتعجلونه ولا يتأجلونه). رواه: الإمام أحمد ورواته ثقات، وأبو داود وإسناده صحيح على شرط مسلم.
واستدلوا أيضاً بما روي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نقتري -أي: نقرأ القرآن-، فقال: (الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر، وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود، اقرؤوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم؛ يتعجل أجره ولا يتأجله). رواه أبو داود، وإسناده حسن. وروي نحو هذا أحاديث أخر، تفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أن يقرأ كل منهم بما تيسر عليه، وسَهُل على لسانه، وأنه لم يكن يعلمهم التجويد، ومخارج الحروف.
واستدلوا أيضاً بأن الصحابة رضي الله عنهم، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان يعلم من يقرئه التجويد ومخارج الحروف، ولو كان خيراً، لسبقوا إليه! ومن المعلوم ما فتح الله عليهم من أمصار العجم من فرس وروم وقبط وبربر وغيرهم، وكانوا يعلمونهم القرآن بما يسهل على ألسنتهم، ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يعلمونهم مخارج الحروف، ولو كان التجويد لازماً؛ ما أهملوا تعلمه وتعليمه.
وعلى الجملة، فإن كلام القائلين بعدم الوجوب يدور على مقاصد ثلاثة:
أولهما: أن الواجب من التجويد ما يقيم الحروف، ولا يخل بالمعنى، وما فوق ذلك فهو مستحب.
ثانيهما: أن المذموم هو المبالغة في التجويد والتمطيط والتشدق به، وهذا مذموم أيضاً عند القائلين بالوجوب.
ثالثهما: أن المذموم هو الانشغال بمراعاة أحكام التجويد على حساب التدبر والتفهم للمعاني.
هذا، ويمكن الجمع بين القول بالوجوب والقول بعدمه بأن يقال: إن قراءة القرآن بالتجويد واجبة فيما كان يؤدي تركه إلى خروج اللفظ القرآني عن بنيته، كلفظ التاء طاء، أو إخراج الحروف من غير مخارجها، أو قراءة اللفظ القرآني بما لا يتفق ومحله من الإعراب، كرفع المخفوض، أو العكس، وكسر المفتوح أو العكس، أما غير ذلك من الأحكام فالإتيان به سنة، كالإتيان بصفة التفشي في حرف الشين، والاستطالة في حرف الضاد، والهمس في حروف الهمس، ونحو ذلك من الأخطاء الخفية، فهذه الأخيرة ليست واجبة، لكن يُستحسن الإتيان بها، وخاصة لمن كان يتصدى للإمامة بالناس، وتعليمهم القرآن.
الخلاصة
وخلاصة القول: إن التجويد ليس بواجب الوجوب الشرعي بإطلاق، ولكن منه ما قد يكون واجباً، كتعلم ما يميز الحروف عن بعضها، بتعلم صفات الحروف، أو بتعلم النطق الصحيح بها، بحيث لا يخل القارئ في قراءته بالمعنى أو الإعراب؛ لأن علم التجويد يشتمل على أحكام كثيرة، ليست على مرتبة واحدة في أهمية الإتيان بها.
ولا شك، أن قول القائلين بأن التجويد ليس بواجب شرعاً، لا يقدح في أهمية تعلُّم علم التجويد، حتى فيما ليس بواجب منه؛ لأنه لا اختلاف في فضيلة ذلك، وأنه حلية التلاوة، وزينة القراءة، وأنه من إتقان القراءة المندوب إليه.