تفسير الشعراوي للآية 159 من سورة البقرة
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}.
والحق سبحانه حين يعرض هذه القضية، يبين لنا موقف الجزاء من الذين يكتمون ما أنزل الله، لقد كتم بعض من أهل الكتاب البينات التي أنزلها الله في الكتاب الذي معهم، بينات تثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته، وهذا الكتمان سيورث شرورا، وكلما نال العالم شر من كتمانهم فسيلعنهم، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله.
والحق سبحانه وتعالى ينبه المؤمنين بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا الجزاء من الطرد ومن اللعن ليس مقصورا على هؤلاء، وإنما ينسحب ويشمل كل من يكتم ما أنزل الله من البينات، إذن فذلك فيه واقع مما حدث من أهل الكتاب، وفيه أيضا تحذير للذين يؤمنون بالإسلام أن يكتموا بينات الله؛ وإلا صاروا إلى ما صار إليه هؤلاء، وهو اللعن.
وكلمة (اللعن) وردت في القرآن إحدى وأربعين مرة، وساعة تأتي للعذاب تكون للطرد والإبعاد بغضب، وهو الخلود في النار، وساعة يكون الطرد إبعاد تأديب، فلا يوجد بغضب؛ لأن المؤدب لا يغضب على من يؤدبه، وإنما يغضب لمن يؤدبه.
وعندما يحدث الطرد من بعد غضب، فذلك دليل على أنه ليس من بعد ذلك رجعة، فالإنسان إذا ترك لشيء صامت ليعذب به كالنار، يقول لنفسه: (ربما جاء من يرق لحالي ويعطف علي فيخرجني من النار)، إنه يقول ذلك لنفسه: لأن الذي يعذب به صامت لا عاطفة له، لكن ما المخرج إذا كانت اللعنة من الله والملائكة والناس؟ كما يقول الحق في آية أخرى: {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [آل عمران: 87].
ويتضح لنا هنا أن لعنة الله تكون في الدنيا وفي الآخرة، ويلعنهم اللاعنون من الناس، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا فيها نجد أن اللعنة أشمل، لأن (اللاعنون) تضم الناس وغير الناس من الكائنات الأخرى، كأن كل من في الوجود يشترك في لعنهم، وعلى سبيل المثال، إذا حبس الله الماء عن قوم لعصيانهم، فالنبات يلعنهم لأنه حُرم من الماء، وتلعنهم الحيوانات لأنها حُرمت من الماء، وتلعنهم الأمكنة لأنهم خالفوا ما عليه الأمكنة من التسبيح لله. أما لعنة الآخرة حيث لا ري لنبات أو حيوان؛ فسيكون اللعن لهم صادرا من الله والملائكة والناس أجمعين. والناس هم بنو آدم إلى أن تقوم الساعة، وهؤلاء منهم كافر ومنهم مؤمن، كيف إذن يوجد اللعن ممن كفر مع أنه هو أيضا ملعون؟
نقول: نحن في الدنيا نجد من يخدع غيره في دين الله، وهناك من ينخدع، فإذا ما انجلت الأمور في الآخرة، وانفضح الخادعون، وأسقط في يد المخدوعين، فهنا يتبرأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا، يتبرأ الخادع من المخدوع، ويتبرأ المخدوع من الخادع، وكلما دخلت أمة من المخدوعين إلى النار لعنت الأمة التي خدعتها، وكلما دخلت أمة خادعة إلى النار، فإنها تلعن الذين استسلموا للخديعة، ويتبادلون اللعن.
يقول الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166].
ويقول أيضا: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
إذن فاللعنة موجودة بين الكافرين بعضهم لبعض، كما هي موجودة في الدنيا أيضا، فالذين يكفرون بمنهج الله وينحرفون ويظلمون، هؤلاء يتلقون اللعنة من أهل منهج الله، ويتلقون اللعنة من المظلومين منهم، ثم يأتي لهم موقف آخر، يأتي لهم من يظلمهم، فيلعنونه ويلعنهم، وهكذا يلعنهم الناس أجمعون.
واللعن بطرد وغضب وزجر يختلف عن اللعن التأديبي الذي يأخذ صيغة الإبعاد، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المتخلفين في غزوة تبوك، وغزوة تبوك كانوا يسمونها غزوة العسرة، لأنها جاءت في مشقة من كل جهاتها، لبعد المكان بين تبوك والمدينة، ومشقة أخرى من نقص الدواب التي تحمل المقاتلين، فقد كان كل عشرة من المقاتلين يتناوبون على دابة واحدة، ومشقة وعسرة في الزاد، حتى أنهم كانوا يأكلون التمر بدوده، وكانوا يأكلون الشحم والدهن والإهالة الزنخة، وعسرة في الماء حتى أنهم كانوا يذبحون البعير ليشربوا من فرثه وكرشه الماء، وعسرة في الجو القائظ الشديد الحرارة، كانت كل الظروف صعبة وقاسية وتحتم ألا يخرج للغزوة إلا الصادق في يقينه.
لقد كانت تلك الغزوة اختبارا وابتلاء للإيمانية في نفوس الناس. ولذلك فإن بعضهم استسلم لحديث النفس في أن يظل بالمدينة، وقال واحد منهم: (أظل ظليل وراحة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في القيظ؟! والله لا يكون هذا أبدا)، ثم قام وتبع جيش المؤمنين، وآخر عنده بستان فيه ظلال وثمار؛ فنظر إلى بستانه وقال: (أأنت الذي منعتني أن أكون في ركاب رسول الله؟! والله لا تكون ملكي بعد الآن، وأنت لله في سبيل الله)، وثالث جلس في بيته وأمامه زوجته الجميلة وحوله أشجار وزروع، فقال: (أأجلس في ظل ورطب وماء وامرأة حسناء ورسول الله في حمارة القيظ، والله لا يكون هذا أبدا)، وامتطى حصانه إلى الصحراء لينضم لجيش المسلمين.
وعندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا اعتذر له من لم يشاركوه رحلة النصر بأنهم كانوا لا يملكون وسائل الحرب من دواب ودروع وسيوف ونبال، فقبل رسول الله علانيتهم وترك سرائرهم لله، إلا ثلاثة صدقوا وقالوا: (يا رسول الله ما كنا أغنى منا ساعة امتنعنا عن الذهاب معك فعندنا عدة الحرب والدواب).
لقد أمر رسول الله الناس ألا يكلموهم ولا يتعاملوا معهم، واستكان اثنان منهم وظلا في بيتهما، وهما هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، أما كعب بن مالك فكان يخرج ويلقى الناس فلا يكلمه أحد، ويذهب للصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسارق النظر إلى النبي ويسلم عليه، لكن رسول الله لا يرد، ويغض طرفه ويعرض عنه، حتى أن كعباً يقول: (فانظر هل حرك رسول الله شفتيه برد السلام أم لا؟).
لماذا كل ذلك؟. لقد أرادها النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة إيضاح لكيفية إبعاد التأديب. وضاقت الدنيا على الثلاثة، وذهب كعب إلى ابن عمه أبي قتادة وتسلق عليه الحائط، لأنه يعلم أنه لو طرق الباب فلن يفتح له. ورغم تسلق الحائط إلا أن ابن العم أعرض عنه، فقال راجيا: (أنشدك الله، أنشدك الله، أنشدك الله) كل ذلك وابن عمه لا يرد عليه، ثم قال له: (تعلم أني أحب رسول الله). فلم يرد عليه ابن العم وظل يتوسل سائلا عن موعد العفو، فقال أبو قتادة: (الله ورسوله أعلم).
فلما مضت أربعون ليلة على هذا الإبعاد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يصعد التأديب فيطلب من الرجال الثلاثة من خلال رسول أرسله إليهم ألا يقربوا نساءهم. لقد دخل العزل إلى دائرة جديدة وهي دائرة المجتمع الخاص حيث الرجل وامرأته، فقال كعب لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطلق زوجتي»؟. قال الرسول: (بل لا تقربها). وقال قوم لكعب: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فلتذهب امرأتك لتستأذنه في أن تظل معك لتخدمك؛ فقد استأذنت امرأة هلال بن أمية رسول الله؛ فأذن لها أن تخدم زوجها. فقال كعب: والله لا أفعل، لأن امرأة هلال حينما ذهبت إلى رسول الله قال لها: (لا يقربنك) فقالت: (يا رسول الله والله إن هلالا ما به حركة لشيء) فأذن لها أن تظل لتخدمه. لكني رجل شاب وأخاف أن أستأذن رسول الله فلا يعطيني هذا الحق.
هكذا كان إبعاد التأديب، وليس بالطرد الكامل من حظيرة الإيمان، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل من يتلقون التأديب أهلا لأوامر يلقيها عليهم، ثم جاءت البشرى بالإفراج بعد عشرة أيام عندما أنزل الحق قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
وهكذا لم يقفل الحق الباب بل جعله مفتوحا أمام الإنسان، حتى لمن كفر، وحتى لمن كتم، فلا يظن أن سابق كفره أو تراخيه عن نصرة الحق سيغلق أمامه الباب، أو يحول بينه وبين ربه، لذلك يقول الحق: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فأولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.