د. رشا سمير تكتب: حين قامت ماريا
«بالنسبة إلى ماريا.. شفاها إيمانها.. شفاها الإله الذى تعبده.. هذا الإيمان هو الذى حرك طاقتها الشفائية وانتصر بأعجوبة على المرض.. لكنه لا يعمل كل مرة كما هو متوقع منه.. لأنه عُرضة للعواطف البشرية وتقلباتها»
تلك هى الكلمات التى تدور حولها رواية الكاتب الصحفى اللبنانى سمير فرحات الصادرة عن دار الآداب.. الذى استطاع بأسلوب سلس وشيق أن يأخذ القارئ إلى عدة عوالم مختلفة.
وأن يجعلك منذ اللحظة الأولى تتعاطف مع بطلة الرواية ماريا المُصابة بسرطان الدم وكيف أصبح شفاؤها مرتبطا ارتباطا وثيقا بقدرتها على تحدى الألم بالأمل..
وتطرح الرواية قضية مهمة وشائكة أخرى وهى قضية زنى المحارم.. وبكلمات يقشعر لها البدن تحكى ندى لوالدتها كيف اعتدى عليها والدها وكيف نقلها من مجرد الصمت إلى الاستمتاع وهو يقنعها بأنها تقدم السعادة لوالدها الذى يُحبها.
استطاع سمير فرحات أن يغوص فى مشاعر تلك الفتاة بقلم واع ومتمكن.. حتى أن القارئ ينسى فى مرحلة أنه يقرأ رواية كتبها رجل، لاستطاعته وصف مشاعر الفتاة المراهقة بنعومة المرأة وقسوة الموقف.
يقول فرحات فى روايته شارحا عالم الديانات الكونية والصوفية وفلسفة الإيزوتيريك على لسان الدكتور وليم:
«الديانة الكونية ليست ديانة بالمعنى المألوف، هى روحانية جديدة تقوم على الخبرة المباشرة والفردية للفضاء الإلهى.. فكل ديانة قامت على هذه الأرض، كان لها نخبتها التى أخذت على عاتقها حمل مقدساتها الحقيقية، الباطنية ونقلها من جيل إلى جيل.. مثل القديسون بالمسيحية.. وفى الإسلام المتصوفون المنعزلون عن العالم من أجل العبادة.. وفى البوذية الرجال الذين انقطعوا عن ضجيج الأرض واختلوا بأنفسهم فوق رؤوس الجبال.. هم الأشخاص الأكثر بساطة وقدرة على الغوص فى أعماقهم فى رحلة داخلية، يلتقون فيها بشعلة الألوهة وجوهر الحياة فيهم».
هكذا حاول فرحات طرح فكرة شائكة وهى كيفية تغلب الإنسان على متاعبه وآلامه حتى لو كانت تلك الآلام نابعة من مرض عضوى، بالإرادة والتضرع إلى الله والإيمان بالظواهر الكونية.
وتستمر الأحداث حيث تُطرح التساؤلات على لسان الأبطال وتأتى الإجابة الفلسفية من خلال شخصية الدكتور وليم..
ثم يقع وليم فى غرام ندى ويختبر للمرة الأولى معنى الحُب.. الحُب وسط القلق والبحث عن خيط يربطه بالحياة.. الحُب فى الحُزن والشك وتشظى الوجود وانكسار المرآة.. الحُب قبل المعرفة وقبل القبلة الأولى وقبل لمسة اليد وعناق العيون.
الحُب بلا مقدمات ولا أبجدية ولا حتى لحظة حميمية..
الحُب مجردا من الجسد ومنتشرا فى أعماق الخلايا كمُحرك للوجود..
هكذا وصف فرحات المعانى الحقيقية للحُب المطلق دون شهوة مادية واستطاع أن يأخذ فى هذا الجزء من الرواية القارئ إلى منعطف جديد.. إلى نقطة نور استطاعت أن تبعث فى كيانى وأنا اقرأ وصفه شىء من الطمأنينة والسكون الداخلى..
استوقفتنى أيضا تلك الرحلة التى قام بها ندى ووليام إلى الوادى المُقدس قاديشا فى أعالى الجبل بشمال لبنان وعن توضيح سبب تسميته المنبثق من الجذور السريانية وقت فتح أبواب مغاراته للمتعبدين المسيحيين والنساك والرهبان..
استطاع فرحات فى تلك الرحلة أن يخطف القارئ لجمال الطبيعة فى بيروت وقدسية أماكنها وعراقة حضارتها القديمة التى ارتسمت بها الشوارع.. حتى أعادنى لتلك الرحلة الخلابة التى قمت بها إلى قلب الجبل فى لبنان منذ شهور..
هنا يجب أن أشيد بالروائى الذى استطاع أن يقدم وجبة واحدة متكاملة لقارئ متعطش للمعرفة.. فقد استطاع أن يقدم قصة حب داخلها مشاعر فلسفية وبُعد دينى إنسانى ارتقى به فوق فكرة أن الدين مجموعة مناسك، وتوغل فى الروحانيات.. كما أكد بها أيضا على مبدأ أن قلب الأديان واحد والعقائد واحدة لا يختلف فيها إسلام عن مسيحية عن بوذية..
عادة ما يخطف سحر الصحافة الروائيين، وأحيانا ما يلجأ الصحفيون إلى كتابة الرواية ليؤكدوا تواجدهم وقدرتهم على المزج بين المهنتين.. وفى الحقيقة استطاع سمير فرحات أن يكون قلما صحفيا اقتحم عالم الرواية بنفس الحماس والنجاح وقدم رواية تستحق القراءة والتأمل.. رواية أدعوكم لقراءتها بتأنٍ لاستيعاب ما بين السطور وما توارى خلف الصفحات.
واختم مقالى بجملة أستوقفتنى طرح بها الكاتب ألف معنى للوجود..
«ما أكثر الطرق المفتوحة اليوم أمامنا، وما أكثر تشابكها، واختلاطها، وقدرتها على الارتقاء بنا، أو تضليلنا بالكامل».