محمد الباز يكتب : قذافى مصر

مقالات الرأي


لا أضع الرئيس محمد مرسى فى خانة واحدة مع القذافى بالطبع فالرجل ليس سفاحا ولن يكون.. والرجل ليس منحرفا ولن يكون والرجل ليس لصا ولن يكون.. لكن لماذا تأتى بعض تصريحاته وكأنها من بنات أفكار القذافى نفسه

أخذت القوى السياسية تصريحات الرئيس محمد مرسى الأخيرة، وتحديدا التى ألقى بها فى وجوهنا بعد صلاته الجمعة فى أسيوط على محمل الجد، راح المحللون يتصدون للرجل الذى كشف أن لديه تسجيلات لمن وقفوا ضد الثورة، وأنه يعرف من يخططون لتعطيل مسيرة النهضة، قال بعضهم إن تنصت مرسى على الحياة العامة شذوذ سياسى، وأن حديثه عمن أسموهم أعداء الثورة ليس إلا تصفية حسابات ليس إلا.

لكننى وفى حقيقة الأمر لم أتعامل مع تصريحات الرئيس مرسى لا التى قالها فى أسيوط، ولا تلك التى قالها منذ ظهوره على سطح الحياة السياسية مرشحا للرئاسة، ثم رئيسا لمصر.

كيف لأحد أن ينسى قصيدة الرئيس محمد مرسى العصماء فى طائر النهضة، الذى اهتم بمؤخرته أكثر من اهتمامه برأسه، وكيف لأحد أن ينسى ما أفلت منه قبل أن يعلن فوزه فى الانتخابات الرئاسية فى الفجر قبل إعلان النتيجة الرسمى، فقد نادى أحد مساعديه وطلب منه أن يخبر الأولاد فى البيت أن يفتحوا التليفزيون لأنه سيتحدث، ولأنه من أبناء الفلاحين أصحاب الأصل، فإنه لا يتحدث عن زوجته تصريحا، فحتما أنه كان يقصد زوجته بكلمته الأولاد.

منذ البداية وأنا أضع تصريحات الرئيس محمد مرسى على مقياس التصريحات القذافية، نسبة إلى مضحك العرب الكبير الرئيس معمر القذافى، الذى كان صاحب أغرب وأطرف تصريحات وتعليقات.

القذافى فى حقيقة الأمر لم يكن مجرد شخص، بل كان طريقة تفكير، وأغلب الظن أنها طريقة تفكير مناسبة للمسئول الذى لا يحقق شيئا حقيقيا على أرض الواقع، فيذهب إلى الخيال ليستعين به على الخروج من مأزقه.

كان غريبا مثلا ما قاله محمد مرسى فى حواره مع عماد الدين أديب قبل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، سأله عماد: لو أن المرشح المنافس الدكتور أحمد شفيق هو الذى فاز بالانتخابات الرئاسية، ماذا ستفعل معه؟

أجاب مرسى بما لم يتوقعه أحد، قال له: لن يفوز، رد عماد: أنا يا فندم باقول افرض، فرد عليه مرسى: ولماذا أفرض أنا أقول لك أنه لن يفوز وأنا سأكون الرئيس.

فسر البعض إجابة مرسى وقتها بأنها ثقة مطلقة تماما، وأنه يطمئن إلى أن تنظيمه الذى يقف وراءه بقوة، ولن يتركه فى الانتخابات وحده، لكن فى مرآتى رأيت الرجل يقترب من نموذج من أسكرته السلطة التى كان قاب قوسين أو أدنى منها.. فقال أى كلام، وصرح بأى تصريحات.

بعد أن دخل محمد مرسى قصر الرئاسة انضبطت تصريحاته بعض الشىء، اكتسب ثقة من كونه الرئيس المنتخب وأول مدنى يدخل قصر الرئاسة، ثم عندما أحال المشير طنطاوى والفريق سامى عنان إلى التقاعد أصبح على ثقة بأنه يقدر على فعل أى شىء فى الوقت الذى يريده.. لكن عندما تزاحمت الضغوط على الرجل، وعندما تمثل الفشل أمامه.. وجدناه يخرج عن المنطق فى كل ما يصرح به.. وهو ما يمكن أن نرصده فى عدد محدد من التصريحات.

التصريح الأولى.. امسك فاسد

أعلن الرئيس محمد مرسى أن هناك حسابًا محددًا فى البنك المركزى رقمه 333 – 333 يستطيع أن يذهب إليه من يريدون أن يتطهروا من المال الحرام الذى اكتسبوه من طرق غير مشروعة، ويضعوا فيه هذه الأموال.

لا أدرى بالطبع من صاحب هذا الاقتراح أو التفكير، لكن فى النهاية الرئيس هو من قال، هو من صرح، هو من واجه جماهيره، وعليه فهو يتحمل عبثية اقتراحه، فلو أنه يعلم الفاسدين الذين نهبوا المال العام، وهو صاحب أعلى سلطة تنفيذية فى البلاد، فلماذا لا يقوم بتوقيفهم والحصول منهم على أموال الشعب.

كان هذا الحساب تحديدا من أجل التبرع من أجل مصر، وكان يشارك فيه المصريون بأريحية شديدة، لكن بعد ما قاله الرئيس أصبح من الصعب على أى مواطن أن يذهب ليضع فيه أى مبلغ، لأنه ببساطة سيكون فاسدا فى نظر الرئيس ورجاله ومن يقومون على أمر الحساب مجرد فاسد حرامى سرق أموال الشعب.

التصريح الثانى.. ثورة ثورة

ما زال الشعب العربى كله يتذكر الرئيس معمر القذافى وهو يخطب فى شعبه، ولا ينهى كلامه إلا بقوله ثورة ثورة إلى الأمام.. بل هناك من يؤكد أن القذافى فى بداية المظاهرات التى خرجت فى ليبيا تطالب بإسقاط النظام خرج القذافى على رأس مظاهرة منها ليهتف «الشعب يريد إسقاط النظام»، فلم يكن القذافى يعتقد أنه النظام الذى يطالب الشعب بإسقاطه، بل كان يرى أنه فوق النظام وفوق الجميع.

محمد مرسى هدد بأنه سيدعو الشعب للخروج بثورة ضد الفساد، وهو بهذا أول رئيس – بعد القذافى بالطبع – يدعو شعب إلى الثورة.

اهتم المحللون للمرة الثانية بتحليل ما قاله مرسى، وسألوه أى ثورة يدعو إليها، وضد من؟ تعاملوا مع الأمر بجدية، رغم أن الأمر لا يخرج عن كونه محاولة من الرجل للهروب من مشاكله الأساسية وفشله الذى أصبح واضحا فى إدارة الملفات الاقتصادية ليقول أى كلام، معتقدًا أنه عندما يدعو إلى ثورة فهو بذلك يدغدغ مشاعر الشعب الذى حتما سيصفق لها ويخرج لتأييده.

التصريح الثالث.. تسجيلاتكم عندى

أما ما كان مضحكا بالفعل فى تصريحات محمد مرسى، فقد كان ما قاله حول التسجيلات التى لديه لخصوم الثورة الذين يعملون ضده، لم يقل محمد مرسى من أين حصل تحديدا على هذه التسجيلات، وإن كان قيادات جماعة الإخوان المسلمين تطوعوا وقالوا إن شباب الجماعة حصلوا عليها، وهو أمر يوقعهم تحت طائلة القانون تماما ولا يجعل منهم أبطالاً.

لكن دعك من مصدر التسجيلات، ولا حتى ما جاء فيها، ولكن السؤال المهم هو: ما هى وظيفة الرئيس محمد مرسى بالضبط؟ هل الرجل يعرف ويعى أنه رئيس ويملك من السلطات ما يستطيع من خلاله أن يحارب الفساد ويقف فى وجه الفاسدين ممن يدعى أنهم أعداء الثورة؟.. وهل يدرك بالفعل أنه يمكن أن يفتح الملفات التى يريدها دون أن يلجأ إلى التهديد والوعيد دون أن يكون لديه شىء حقيقى؟ هل يعتقد أن بكلامه هذا يمكن أن يبث الرعب فى قلوب المصريين فيخرون صرعى تحت قدميه؟

وإذا كان الحديث بالحديث يذكر، فما الذى يقوله الرئيس محمد مرسى نفسه عن التسجيلات التى ينسبها إليها، وهى تسجيلات استغرقت خمسة عشر دقيقة مع قيادات من حركة حماس قبل ساعات قليلة من إلقاء القبض عليه يوم 27 مارس، وأن هذه التسجيلات تحديدا هى التى تم عمل محضر تحريات بها، وذهب المحضر إلى نيابة أمن الدولة العليا التى أصدرت أمرا بإعتقال محمد مرسى، ولم يخرج من معتقله إلا بعد أن قامت الثورة وفتحت السجون على مصراعيها ليخرج منها الإخوان ومن يريدونهم.

هناك اتهام يطارد الدكتور مرسى بأنه هرب من السجن أيام الثورة، وهو اتهام غامض ومريب ومراوغ، وعلى مرسى أن يعلن ما جرى ليس فى الاعتقال فقط، ولكن فى اتصالات بقيادات حماس فى الخارج قبل 28 يناير، ولماذا أجرى الاتصالات من تليفون ثريا لا يخضغ للمراقبة، وهل كانت هذه الاتصالات متعلقة بالترتيب للثورة، أم أنها كانت اتصالات عادية بين قيادات حماس وقيادة فى جماعة الإخوان المسلمين مسئولة عن الملف السياسى.

كنا نتمنى أن تدخل مصر بعد الثورة إلى عصر النضج السياسى، لكن يبدو أنها دخلت عصر الخرف السياسى بجدارة، فنحن أمام تصريحات متناقضة لكل المسئولين، وتصريحات منفلتة من بعضهم، وتصريحات مضحكة وعبثية تأتينا من أكبر رأس فى البلد.

لا أضع الرئيس محمد مرسى فى خانة واحدة مع العقيد الرحل معمر القذافى بالطبع، فالرجل ليس سفاحا ولن يكون، والرجل ليس منحرفا ولن يكون، والرجل ليس لصا ولن يكون، هو لن يفعلها كما أن الشعب لن يسمح له بذلك على الإطلاق.. لكن رئيسنا اقترب بما قاله من أداء معمر القذافى المسرحى، الذى كان يعتمد على التصريحات غير المنطقية التى ينشغل الناس بظاهرها عن حقيقتها ومضمونها.

كان القذافى مجنونا رسميا، وهو ما جعلنا نتقبل ترهاته وتصريحاته المنفلتة، ونحولها إلى نكت وقفشات، لكن ما الذى يجعل الرئيس محمد مرسى إلى هذه المساحة، الرجل ليس مجنونا بالطبع، ودعك من المبرر الذى تم تسريبه عبر قنوات رسمية، من أن الرئيس كان منفعلا لأنه اطلع على تقرير أكد أن هناك مؤامرة من رجال الأعمال ورجال الإعلام على الرئيس، وأنه كان يريد توصيل رسالة للجميع أنه مستيقظ وسيرد الضربة لأصحابها، وهو كلام متهافت جدا وليس مقبولا بالمرة، فكيف نطمئن لرئيس لا يستطيع أن يواجه خصومه – هذا إذا كانوا موجودين – بل يهددهم عبر تصريحات أكثر ما يقال عنها إنها مضحكة وعبثية؟