يبصر ملامح الطريق!
المصابيح خافتة تبعث ضوءاً واهناً، والليل يبسط رواقه على الأزقة الضيقة، والصمت مخيم إلا من صراخ القطط، وبين الفينة والأخرى تمر سيارة (داتسون)؛ تشعرك أن الناس لا زالوا مستيقظين.
كنت فتى جاوز المرحلة الابتدائية، يشدو للحياة، ويستجيب للطموح، ويبحث عن ومضة أو قبضة يشد بها عزمه، أو يبصر ملامح الطريق..
يستمع لوعّاظ المدينة ولا يجد نفسه، وحسه النقدي المتواضع يصنع له توتراً مع موضوعات سطحية باردة، وأحكام شديدة، وقفز غير منتظم بين الفقرات، ولغة ضعيفة يغلب عليها التوبيخ، والزجر، والخوف..
الجميل أن الناس كانت تتحدث من ذاتها، لا تحتاج إلى(فسح) وإجراءات طويلة، ولا تأخذ مالاً مقابل جهدها.. وهذا يمنح الواعظ شيئاً من الثقة والاحترام.
«الشيخ عبد العزيز» كان مختلفاً في نظر ذلك الفتى، يتحدث بحميمية صادقة؛ تشعرك بأنه يحب الناس الذين يخاطبهم، ويبدو هذا في ملامح وجهه النحيل المتعرِّق، وابتسامته التي يظن آخرون أنها لا تنسجم مع موقعهم، أو تخدش هيبتهم، أو يتفقّهون بأن الناس يغلب عليهم المعصية فيكفهرُّون في وجوههم، وأحياناً يكون الوعظ المستمر القائم على التخويف، والزجر، وتعداد المعاصي والموبقات؛ سبباً في نوع من الاكتئاب والنظرة الجزئية للجانب المظلم.
حتى بعض الانفتاح العادي المقبول يرفضه بعضهم ،ويرونه نذير خطر ماحق، فالتعليم يخفي وراءه شراً مستطيراً، والكتب العصرية، والإذاعة، والتلفاز، والصحف.. هي أبواب للفتنة والتحلُّل من الدين، وهي تنتشر كالنار في الهشيم، فلمَ لا يغلب علينا الوجل، ويلفنا الحزن ونحن نرى هذا، ونجد أبناءنا يتعلمون في المدارس كروية الأرض ودورانها، والوصول إلى القمر.. ويلعبون الكرة ويلبسون ألبسة غريبة!..
كأنما هو إحساس بقرب هزيمة خيارات طالما انتصرنا لها وقدَّمناها باسم الله.
«الشيخ عبد العزيز» بفطريته وسماحته التي جُبل عليها اقترب من الجيل الجديد، ولامس أرواحهم، وخاطبهم بالقضايا الأساسية؛ مدعماً إيمانهم بالله وبالآخرة.
لغة سهلة غير متكلّفة، وتحريك للمعاني السامية، وعناية بالمسلَّمات الشرعية والأخلاقية.
الابتسامة تعلو محيّاه، والبِشْر على وجهه، ومصائب الأمة لا تحول بينه وبين تاسيس روابط الحب والصفاء مع الناس، من عَرف ومن لم يعرف.
لا عجب إذن أن يحتشد الحضور، وأن يكتظ المسجد على سعته، ويصبح الشيخ ظاهرة استثنائية؛ تتحدث عنه المجالس، وتنقل أحاديثه بإعجاب، وأن يحفل المشهد الوعظي بآخرين يحاكون طريقته، وصوته، ونحنحته، وطريقته في التلاوة التي كان يتفرَّد بها.
كان يختار مقاطع مؤثرة ومشجية من القرآن؛ كسورة هود، وآيات الأعراف: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)(الأعراف: من الآية40)، وآيات من سورة فاطر: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32)، وبحسب روحه المحبة للناس ولنجاتهم يختار القول بأن الطوائف الثلاث (السابق والمقتصد والظالم لنفسه) كلها داخلة في الاصطفاء وحائزة على الفضل، ويردد كلمة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:«سابقنا سابق، ومُقْتَصِدُنا ناجٍ، وظالمنا مغفور له».
وبالطريقة ذاتها يتغنّى بأبيات مختارة من الشعر العربي؛ كقصيدة أبي البقاء الرندي:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ ... فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
وقصيدة مالك بن الريب:
أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً ... بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا..
المقاطع التي يختارها من القرآن والشعر مرسومة في الذاكرة باللحن ذاته منذ تلك الأيام!
القصص المؤثرة تصنع حياة للمجلس وتشد السامع، وهي مما قرأ في الكتب أو سمع من الرواة، وقد يحكي قصة كان هو أحد شهودها.
والقصص هنا ليست نصوصاً معصومة، ولا أدلة شرعية، ولا يتشدد فيها كما يتشدد في الحلال والحرام.
لغته العربية قوية، ولكنه يُفضّل تطعيم كلامه باللهجة الدارجة؛ ليكون أقرب إلى التأثير والاستيعاب، وطالما ابتسم شيوخ الحيِّ وهم يرددون مثلاً شعبياً طرق سمعهم في وعظه!
يختم مجلسه بالدعوات الطيِّبات المباركات للخاص والعام، وهو شديد الثقة بالإجابة، ويحكي أنه ما دعا بشيء إلا وجد أثره في نفسه وحياته ومن يدعو لهم.
أما خصومه ومناوئوه فقلبه لا يحمل لهم سوى العطف والتعذير، وسماحته تحوطهم بالصفح والمغفرة والتجاوز، وهو يشملهم بدعواته ولا يتبرَّم منهم.
مجيؤه للمسجد الصغير في حي الموطأ كان استثناء، فهو عادة يقتصر على المساجد الكبيرة، ولكن الواسطة تنفع هنا.
الوالد الشيخ الكبير بنى علاقة مع الداعية، وأقنعه بزيارة المسجد، وكان كرمه أكثر من ذلك.. لقد قَبِل الضيافة وشرّف المنزل.
يا له من خبر سعيد أن يكون «عبد العزيز العقل» فارس المنبر في منزلنا!
منذ ذلك الحين لم يكن مقبولاً من أحدٍ أياً كانت منزلته أن ينتقد الشيخ.
ذات يوم كادت العلاقة تتوتر مع قريبٍ قال بأن الشيخ استشهد بآية في غير موضعها، ولام الذين ينصرفون دون أن يسمعوا الموعظة!
المتابعة لمواعظه تكرِّس الانطباع بالروح الرحيمة المشفقة، وبمنهج التيسير والتسامح؛ الذي يطبع سلوك الشيخ وأقواله واختياراته، وها هو يُقدِّم الترغيب على الترهيب، والوعد على الوعيد، ويكثر من ترنيم الآيات من سورة الزمر: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53)
مسحة التواضع بارزة في سلوكه، وهو بريء من الكِبر والتعاظم؛ الذي يتسلل إلى آخرين حين يرون احتشاد الناس حولهم، وكثرة أتباعهم، وتداول أسمائهم..
هو اجتماعي مدني بالطبع، يتعرّف على الناس ويسأل عنهم، ويهتم بأحوالهم، ويأنس بهم، ويؤنسهم، ويحبهم ويحب الخير لهم.. وكل جليس يظن نفسه الأحب إليه والأقرب إلى قلبه، وهو صادق في مشاعره؛ لا يُفرِّق بين أحدٍ منهم، ولا ترى العامل والغريب والضعيف عزيزاً كما تراه في مجلسه لا يُضام ولا يُحتَقر.
كان يسعى في نجاة الخلق ويُحسن الظن بهم، وفوق ذلك يُحسن الظن بالله الذي وسعت رحمته كل شيء..
كان رقيق القلب، سريع الدمعة؛ خصوصاً حين يتحدّث عن رحمة الله وما أعده لأوليائه، أو يتحدّث عن العلاقة والتضحية الإنسانية كما تتجلى في الوالدين وحدبهم وبرهم..