عبد الحفيظ سعد يكتب: التجلى.. الموسيقى الربانية لأبو العينين شعيشع ومصطفى إسماعيل مصدر إلهام نجوم الغناء
■ تجويد القرآن طريق الصعيد للتمتع بالطرب وكسر جمود التقاليد
■ صدفة تلاوة طه الفشنى أمام الملك فاروق تحوله من تسجيل أسطوانة موسيقية لتجويد القرآن
نكاد نجزم بأن القرآن قرأ فى مصر، واقع فرضته الطريقة المصرية فى تجويد القرآن، والطرب به، دفعت شيخ الأزهر الأسبق مصطفى المراغى، أن يلخص رحلة القرآن بمقولته «نزل فى مكة والمدينة وطبع فى إسطنبول، وقرأ فى مصر»..
لكن ما هذا السر الذى جعل من مصر العاصمة المعتمدة لقراءة القرآن، لدرجة جعلت أن المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، اختلفوا بين فرق ومذاهب لكنهم أجمعوا على حب الصوت المصرى، يسمعه السنى ويردده الشيعى، فى كل بلاد المسلمين تفرقهم المذاهب ويجمعهم الصوت المصرى للقرآن.
هذا السر، يكشف عنه التاريخ القريب من خلال ما جمعته من مذكرات لشيوخ القراء بارتباط تجويد القرآن بمصر، صحيح أن شيوخ القرآن لم يعطوا إجابة محددة عنه، البعض ربطها بالتربة المصرية التى خرجت منها مدرسة التلاوة وجنادل المياه فى الوادى والدلتا المنتشر عليها أشجار البلابل وأصوات الحارة فى القاهرة والإسكندرية، وآخرون يرجعونه إلى رحلة النهر عبر واديه الضيق بأنه وراء السر، بينما ذهب فريق ليربط بين التلاوة المصرية، وكتاتيب تحفيظ القرآن فى كل حى وقرية إنها أصبغت المدرسة المصرية بطريقة خاصة فى التلاوة.
ونجد أن حكايات شيوخ القرآن، مع التلاوة تكشف عن قصص وحكايات، ترسخ للمدرسة الفريدة للطرب المصرى، خرجت منها أفضل التجاويد وكانت بمثابة الطريق الذى أعطى شخصية متميزة للموسيقى.
وإذا كانت حكايات قراءة القرآن فى الدلتا والقاهرة لها دور خاص، لكن قصة القرآن مع الطرب فى الصعيد كان لها وضع متميز فريد.
فعلى عكس مدن وقرى الدلتا، المتشابكة المترابطة، والملتصقة ببعضها لا تقطعها التقسيمات الجغرافية، لتواصلها مع بعضها عبر الطرق الفرعية، وليس فقط باستخدام الطرق الرئيسية.. كان للصعيد وضع خاص.. محبوس لا يتواصل شماله عن جنوبه إلا عبر طريق طويل ممتد يقطع الوادى، ومقسم محافظات شمالاً وجنوبا، يعيش الناس محشورين على ضفتى النهر ورمال الصحراء الغربية وصخور الجبل الشرقى.
ربما كان للطبيعة والجغرافيا دور فى تشكيل ثقافة الصعيد الجامدة والقاسية والمنغلقة، هذه الثقافة التى لم تتح فرصة لوجود حفلات الطرب والموسيقى، والتى ظلت مرهونة لعوامل العادات والتقاليد، لكن كان هناك طرب خاص ارتبط بالوجدان الصعيدى، وهو الطرب القرآنى الذى كسر عزلة التقاليد من خلال قراءة كتاب الله، بتجويد شيوخ احتلوا مرتبة نجوم الطرب هناك، خاصة أنهم ساهموا فى متعة الاستمتاع للطرب، وأيضا مهد الطريق لفن الإنشاد والمديح فى الانتشار فى صعيد مصر.
واستطاع فن التجويد القرآنى، أن يكسر طول المسافات بين قرى الصعيد الممتدة عبر واديه الضيق، وغلظة الحياة التى جعلت الصعيد يعيش منعزلا، بعيدا عن فنون الطرب، لكن فن التجويد فى الصعيد، جمع حوله جمهوراً خاصاً يقطع المسافات ليستمع لشيخ مقرئ، منتقلا من المنيا لأسيوط أو قادما من سوهاج لقنا.. وظلت فكرة الاستماع لليالى القرآنية.
حكايات الطرب القرآنى فى الصعيد ممتدة وتختلف عن باقى أقاليم مصر، لأنها كانت ومازالت تأخذ الشكل الاحتفالى، أو ليال مخصصة لقراءة القرآن وليست مقصورة على المآتم أو الليالى الحزينة فقط بل كانت الأفراح و«الطهور» والمناسبات السعيدة، تقام لها ليال قرآنية تتم دعوة كبار شيوخ القراء، وتطبع دعوات وتجهز الذبائح لإقامة الليلة..
حكايات أهل الصعيد الممتدة مع الطرب القرآنى، كانت لها جمهورها الخاص الممتدة فى أربعينيات القرن العشرين والتى مازال تحتفظ بجزء منها للوقت الحاضر. ويكشف عن تفاصيل تلك الليالى ما رواه أهم اثنين من شيوخ القراء الصعايدة وهما الشيخ طه الفشنى، والشيخ محمود صديق المنشاوى، الذى يورد تفاصيل حياة عائلة المنشاوى الممتدة من الأب الشيخ صديق وشقيقه الشيخ محمد المنشاوى.
ونجد أن الشيخ المنشاوى الأب الذى كان يحمل أداءه وحياته فى التلاوة طريقة صوفية زاهدة، وهو الميراث الذى أخذته منه عائلته، لكنه كان حريصاً أن يقرأ فى الصعيد فقط، حتى لو كان بدون أجر. لكن ابنه الأكبر محمد صديق، ساهم بشكل أو بآخر أن تتحول السهرات القرآنية حتى لو كانت مآتم إلى حفلات، تجذب لها جماهير من المستمعين من عدة مدن فى الصعيد، بل كان صاحب الليلة يلتزم بطبع 10 آلاف دعوة، وتنظيم سرادق ضخم له، وهو السر الذى جعل هذه العائلة مرتبطة بالقراءة فى الصعيد.
1- الفشنى صوت الصعيد ملك مدرسة الطرب القرآنى
ولم يمنع مزاج الصعيد الجامد، من أن يخرج أحد أبرز شيوخ القراء، الذى يعد هو الرمز بين فكرة الطرب والغناء وقراءة القرآن.. فالشيخ طه الفشنى المولود بمدينة الفشن بشمال الصعيد، ينتمى لمدرسة الشيخ على محمود سواء فى التلاوة القرآنية أو التواشيح الدينية.
لكنه عاش فى العبقرية الفنية لـ«حارة الروم» الملتصقة بالمشهد الحسينى بالأزهر ليرافق عمالقة القراءة فى تلك البقعة الكاشفة عن جزء مهم من الخصوصية الإسلامية المصرية ما بين الحى الشعبى وأهم مقاصده الدينية فى سيدنا الحسين..
لذلك يلقب الشيخ الفشنى بأنه الشامل، فلم يترك صوته كلاماً إلا وأبدع.. ما بين تلاوة القرآن والتراتيل والتواشيح وإنشاد المديح.. صوته واسمه محفور فى ذاكرتنا كأشهر مؤذن فى دولة التلاوة.. لصوته عذوبة وحركة لم يمتلكها أحد غيره ينتقل بين مقامات الموسيقى بصورة غير مألوفة وعندما تسمعه وهو قارئ للقرآن كأنك تسمع واحدا غيره وهو ينشد المديح. خصوصية وعذوبة صوته لم يمتلكه أحد سواه، نشعر بها عندما يخرج بصوته فى ساعة عصارى منشداً الأذان بعذوبة صوته ودفئه.
رحلة انتقال الفشنى بين الصعيد والحسين تكشف عن سر تميز صوته، فبدأ الشيخ الفشنى الدراسة بالأزهر لتلقى العلوم الشرعية، على أمل أن يحصل على وظيفة قاض شرعى كما كان يخطط له والده، لكن ظروف ثورة 19 دفعته أن يترك الدراسة فى الأزهر ويعود لبلده بالصعيد.
لكنه عاد مرة أخرى ليلتحق هذه المرة بالأزهر، ليتعلم فنون القراءات والتجويد، وحصل بالفعل على إجازة علم القراءات على يد الشيخ عبد الحميد جودة السحار وأتقن علوم التجويد.. وكان الجو فى القاهرة شيئا مختلفا، فأثناء دراسته فى الأزهر اتخذ حى الحسين مسكناً واختار حارة الروم وكان قريباً منه فى السكن الشيخ على محمود.. ملك التواشيح الدينية وكان للشيخ على محمود فرقة تواشيح خاصة فعرض على الشيخ طه الفشنى أن ينضم لبطانته، فوافق.
وفى هذه الفترة كانت فرصة جيدة أن يتعلم الشيخ طه الفشنى الطرب خاصة أن الشيخ على محمود يعد مدرسة خاصة فى الطرب المصرى فعلى يده تعلم محمد عبد الوهاب الموسيقى وعلى يده أيضاً دخل الشيخ طه الفشنى فن التواشيح والمديح وكان زميل الشيخ طه الفشنى فى فرقة الشيخ على محمود الملحن الشيخ زكريا أحمد..
ومن الحكايات الطريفة والغريبة فى حياة طه الفشنى، أنه عقب ظهور الشيخ طه سمع بعض رفاقه من دارسى الموسيقى صوته تحمسوا أن يلحنوا له وبدا لهم أنه مشروع مطرب، وبالفعل اتفق مع شركة «كايرو فون» للأسطوانات على تسجيل عدة أغان له تطرح له فى الأسواق وقام بالفعل بتسجيل «طقطوقات» وعدة أغان على أساس أن تطرح فى الأسواق كتسجيلات. وقبل أن ينتهى من تسجيل الأسطوانة، حدث عام 1937، واقعة صدفة غريبة، إلا أنها حولت مساره من العمل كمطرب للاتجاه لقراءة القرآن، كانت حفلة تقيمها الإذاعة المصرية فى مولد الحسين يحضرها الملك فاروق ، وكان من المقرر أن يحييها بقراءة القرآن الشيخ على محمود، والذى أصيب فجأة بدور برد، فطلب من رئيس الإذاعة لإنقاذ الموقف، أن يقوم بالتلاوة بدلا منه أحد تلاميذه واختار طه الفشنى، لأنه كان يحفظ القرآن.
وكانت هذه الفرصة تاريخية للشيخ الفشنى، وحولت مساره تماما، فعندما سمع الملك صوت الشيخ الجديد أعجب به فى قراءة القرآن، على الرغم من أن الشيخ الفشنى شارك كلا من عبدالوهاب وأم كلثوم فى الغناء فى حفل زواج الملك فاروق.
غير أن الشيخ طه الفشنى، كان بالنسبة له تلاوة القرآن أفضل له من الاستمرار فى الغناء، وبعدها حول مساره. ورغم أن نجم الشيخ طه الفشنى لمع فى عالم تلاوة القرآن ولكنه استمر كمنشد دينى وأنشأ فرقة خاصة به للإنشاد الدين عام 1942 مع استمرار عمله كقارئ.
فكان الشيخ طه الفشنى يجمع بين فنون الإنشاد بداية والابتهالات والتواشيح بالإضافة إلى التعطيرة «وهى تقال عن وصف الرسول عليه الصلاة والسلام». وكان الشيخ طه الفشنى يعزف على العود مثلما كان الشيخ على محمود يلعب على الناى، والشيخ مصطفى إسماعيل يعزف على البيانو.
وللشيخ طه الفشنى إمكانيات خاصة فى صوته مكنته من التنوع بشكل لافت وعجيب لأنه كان يستطيع أن يقرأ القرآن بالتلاوات السبع، وينشد أبيات المديح بست طرق، وطاف بصوته فى كل قرى ومدن مصر، لكنه كان لليالى التى يحييها فى الصعيد مزاج خاص وكان له جمهور كبير من السميعة.
وهناك إحدى الوقائع الطريفة فى حياة الشيخ طه الفشنى، أنه تمت دعوته لإحياء أحد الموالد بمركز ديروط بمحافظة أسيوط بصعيد مصر.. وبدأ الشيخ بقراءة القرآن كعادته عندما يحيى المناسبات وبعد أن انتهى دخل فى إنشاد التواشيح وعندما دخل على مقطع «استقر به المقام» سمعه أحد العمد الصعايدة الذين حضروا المولد وانسجم العمدة بنغم الشيخ طه..
وتجلى العمدة بصوت الفشنى وأقسم بالطلاق أن يستمر الشيخ، يردد هذا المقطع «واستقر به المقام» حتى الصباح.. وعارضه بعض الحضور فأصر العمدة ورفع سلاحه وأقسم أنه سوف يقتل من يعترضه وكادت أن تتحول الليلة، وأمام إصرار العمدة أن يسمع ذات المقطع «واستقر به المقام» حتى الصباح لم يجد الشيخ طه الفشنى من مفر أمامه لحقن الدماء سوى أن يعيد نفس المقطع من بعد منتصف الليل حتى بزوغ الفجر حتى يرضى العمدة الهائم به، ولجأ أن يقوم بترديد المقطع بمقامات عديدة، وظل يكرر ذات المقطع بطريقة تختلف عن المرة التى سبقتها وبالقطع كانت طريقته فى ذلك إجادة لكل مخارج الألفاظ.
2- التجلى.. موسيقى الخشوع الربانى
وتعد قصة التجلى فى قراءة القرآن، تفسر الحالة التى وصل لها العمدة الصعيدى، وتعد أهم ما يميز الصوت المصرى فى التلاوة، لأنها تجمع ما بين الخشوع، والانسجام بالطرب، وهى فكرة يصل إليها الشيخ المقرئ لمرحلة، يفقد الشعور بمن حوله، وينخرط فى التلاوة، وكأنه ملقن من السماء، لذلك تعرف بأنها منطقة الطرب الربانى.
ويعد كل من الشيخ مصطفى إسماعيل وأبوالعينين شعيشع، أشهر شيوخ القراء الذين كان يحدث لهم التجلى، مع الشيخ مصطفى إسماعيل خاصة فى سور طه والقصص وآل عمران.
ويصف لنا الشيخ أبو العينين شعيشع فى مذكراته قائلا: «إنها حالة روحانية لا يعبر عنها الكلام ولكن يعبر عنها فقط الصوت، عندما يصل فيها للأعماق ليخرج صوته كأنه نابع من السماء لا يدرى أو يشعر بمن حوله من أهل الأرض. وكأنها مسحة صوفية يغيب فيها العقل المدرك ليصل إلى حالة تلامس روحانى محكوم بحدود القرآن وقداسته وكأنه يقرأ من نبع ربانى».
ويضيف شعيشع : «فى الحقيقة لا أدرى كيف أصل لحالة التجلى.. أحياناً كثيرة وأنا أقرأ القرآن أجد نفسى فى ملكوت آخر لا أشعر بمن حولى أحياناً أحس أنى مغيب... مثل الذى يطير مع بساط الرياح يميل ويتحرك وأشعر أننى لا أتحكم فيما أقول، كأنى هايم بكلام الله قوة أخرى غير قوتى ووعى آخر غير إدراكى يسيطر على كل حواسى وكأنى مسير بقوة روحية ولكن قوى ما تحركنى هى التى تدفعنى كأنى عصفور أطير بلا أجنحة... حالة لا أستطيع أن أوصفها هى شعور يمتلكنى لا أقدر على وصفه ولكنه لا يخرج عن حدود القرآن».
ويستطرد: «أثناء حالة التجلى لا أشعر بمن حولى عندما أختم وأنهى القراءة لربع القرآن أشعر للحظات أنى غريب عن المكان وكأنى قادم من بقعة أخرى... أحتاج للحظات حتى أتملك شعورى وإحساسى بالمكان أحياناً كثيرة كنا نظل نقرأ من منتصف الليل ولا نختم إلا عند طلوع الشمس عندما تضرب الشمس فينا فتجعلنا نفيق».
والغريب أن حالة التجلى لشيوخ القراء كانت مصدر إلهام، لفنانى الطرب، لأنها تعبر عن الصوت النقى، وربما من المفارقات أن الشيخ أبو العينين شعيشع، يرجع الفضل للحفاظ على تراثه من القراءات التى تجلى بها للمطربة الراحلة عصمت عبد العليم، وهى مطربة شهيرة فى فترة الستينيات غنت مع نجاة أغنية «طاير يا حمام» فى أوبريت «أم شناف» وكانت المطربة الراحلة التى تحتفظ بتسجيلات نادرة له فى الستينيات سجلتها لكبار شيوخ القراء على رأسهم أبو العينين شعيشع، الذى يرجع الفضل للمطربة الراحلة أنها التى جمعت القراءة التى تجلى فيها، لأن غالبيتها كانت فى فترة شبابه، ولم يكن يدرك وقتها ما يقوم به من حالات التجلى التى كانت تأتيه وغيره من القراء كأنها نفحات ربانية.