عبد الحفيظ سعد يكتب: قصص الغناء والتلاوة بين شيوخ القراء مصطفى إسماعيل وشعيشع وأم كلثوم وعبدالوهاب

مقالات الرأي



■ كوكب الشرق لـ"عطية السماء": حرام عليك يا مولانا سيب لينا شوية طرب نغنيه

■ عبدالوهاب طلب من الشيخ شعيشع أداء أغنية الجندول قبل تسجيلها

■ مدارس الطرب المصرى ارتبطت بمدرسة التلاوة فخرج منها الشيوخ سيد درويش وزكريا أحمد والقصبجى وأبوالعلا أحمد وإمام عيسى ومكاوى


فى مصر فقط، كانت لقراءة القرآن مدرسة خاصة.. تحلق فيها الروح بعيدا فى مساحة تجمع ما بين التجلى الربانى، وبديع النغم للصوت القرآنى.. فيها حكايات تمزج ما بين الخشوع والفن.. فالنغم والألحان موجودة فى القرآن لم يكتشف سرها أحد، إلا مع عصر النهضة المصرية التى بدأت فى مطلع القرن العشرين، وقتها ظهر فن مصرى خالص، على يد شيوخ قراء، أصحاب حناجر ذهبية.

لذلك كان التجويد القرآنى فنا مصريا خالصا، تميز وتفرد عما دونه من الفنون، بعد أن وضعت أرض النيل بصمتها الخاصة له، ولم يأت مستوردا من الخارج على عكس فنون الإبداع من المسرح والصحافة التى حلت لمصر بإبداع حمله أهل الشام لمصر أو الأدب والسينما التى جاءت على يد صناع أوروبيين أو مترجمة من الغرب، لكن كان تجويد القرآن ابن هذه الأرض.

والغريب أن إبداع قراء القرآن، حمل معه ازدهار كل فنون الموسيقى، فلا نستعجب عندما نعلم أن آباء الملحنين كانوا فى الأصل أزهريين، بل الأدق قراء للقرآن، بداية من الشيخ شهاب الدين إسماعيل والشيخ عبدالرحيم المسلوب، اللذين كان لهما الفضل الأول لوضع قوام للموسيقى العربية المصرية ونجد أن الشيخ شهاب إسماعيل وضع قبل بداية القرن التاسع عشر لنا كتابا اسمه "سفينة شهاب" جمع فيه التواشيح الأندلسية التى مهدت للطرب المصرى.

وبعده وضع زميله الشيخ المسلوب أسس "الدور الغنائى" ليمهدا الطريق فيما بعد لشيوخ آخرين مثل عبده الحامولى ومحمد عثمان وأبوالعلا محمد ليخرجوا الغناء المصرى متميزا عن الأسلوب الغجرى والعثمانى والفارسى ليتطور فيما بعد ويأخذ طابعه الخاص.

ولا نستعجب عندما نعلم أن أول كلمات غنى بها عبده الحامولى ولقى شهرة وضعها الشيخ عبدالرحمن قراعة مفتى الديار المصرية، كما غنى أبوالعلا محمد كلمات الشيخ عبدالله البشرى شيخ الأزهر.

ارتباط الموسيقى بتلاوة القرآن، كمنبع للنغم والمقامات، هو ما مهد لفتى الإسكندرية الشيخ سيد درويش الذى غير شكل الغناء والطرب، متأثرا بالوقار القرآنى، والنغمات المنبعثة من جمال صوت التلاوة، فنجد أن غالبية أعلام الغناء الذين جاءوا بعد سيد درويش، كانوا شيوخا مثلا سلامة حجازى وزكريا أحمد وصالح عبدالحى وأبوالعلا محمد ومحمد القصبجى ويونس القاضى وحامد مرسى وصولا للشيخ إمام عيسى وسيد مكاوى، كل هؤلاء حملوا لقب شيوخ، لبدايتهم التى ارتبطت بتجويد القرآن.

فى ذات الطريق والتوقيت نبعت مدرسة أخرى فى الفن، وهى تجويد القرآن الكريم بعد أن تعمقت الأصوات فى إخراج النغم.

ونجد فى تلك الفترة ترعرعت القراءة المصرية للقرآن وخرج جيل مثل الشيخ منصور بدار والشيخ الصيفى وأحمد ندا، وكامل البهتيمى وكانوا متلازمين فى حى الحسين لتخرج تلك الكوكبة ثمرة هى الشيخ محمد رفعت كمؤسس لدولة التلاوة.

والغريب أن جميع القراء الأوائل لم يكونوا يدركون أن ما يؤدونه من مقامات موسيقية وكان أداؤهم طبيعيا لم يدرسوه ولم يتلقوا تعليمه.. لكنه جاء بفطرة طبيعية فى التلاوة ليفجروا تلك الألحان ذات العذوبة الأصيلة.

وما يميز القراءة المصرية للنص القرآنى أنها ليست مجرد صوت جميل فقط، بل طريقة للقراءة الروحانية، تأخذنا من حالة غريبة عند سماع الآيات بالأنغام والمقامات وتصل بنا لدرجة سلطنة موسيقية لا تقلل من وقار الكلام المقدس بل تكشف عن عذوبته، فالقرآن آيات بألحان سماوية.

الارتباط بين تلاوة القرآن والموسيقى، ترشدنا عنه الحكايات التى جمعتها من مذكرات شيوخ القراء، وكانت بدايته ما حكاه الشيخ مصطفى إسماعيل فى شريط مسجل قبل وفاته يحكى فيه عن قصة حياته.

ويظهر فيه الرابط بين الطرب والتلاوة، خاصة أن الشيخ مصطفى إسماعيل يعد الفاتح الأول والمنبه للغوص فى النغم والألحان الكامنة فى آيات الذكر الحكيم، بعد أن ظلت مجهولة لمدة تزيد على 13 قرنا والتى بدأت تتفجر فى عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين مع تطور التسجيلات والإذاعة.

ودفعنى ما ذكره الشيخ إسماعيل فى مذكراته، وأنه يجمع بين الطرب ونغم التلاوة أن أبحث عن ذكريات وحكايات أخرى لشيوخ القراء مع الموسيقى من الشيخ أبوالعينين شعيشع والشيخ طه الفشنى والشيخ صديق المنشاوى.


1- عطية الطرب السماوية

ظلت قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل للقرآن محيرة منذ خروجه للنور وحتى يومنا فأداؤه المتميز وصوته الذى لا يضاهيه صوت، مكنه من أن يحصل على لقب "عطية السماء"، بعد اعتراف الجميع أنه صاحب مدرسة خاصة فى التلاوة القرآنية، لا يقلد أحدا ولم يجاره أحد وإنما هو مدرسة مستقلة ومتفردة فى القراءة للنص القرآنى بألحان من السماء.

أطرب السميعة عندما سمعوا صوته واكتشفوا فخامة النغم فى أدائه، رغم أن الشيخ مصطفى لم يكن يدرك أن أداءه يجمع معانى فنية عالية، من مقامات موسيقية ونغم.. ويعترف الشيخ مصطفى إسماعيل فى مذكراته، إنه لم يكن يدرى أن قراءته تحملا نغما خاصا، وأن السميعة هم الذين نبهوه لأن قراءاته وأداءه يحملان طرباً خاصاً، ويقول: "درست العلوم القرآنية ودرست التجويد، لكننى لم أعرف المقامات الموسيقية مثل الحجاز «يعبر عن الشعور بالشفقة» والصبا «الشجن» والبياتى «يعبر عن الشجن والعاطفة»، والنهوند «يستخدم فى الألحان العاطفية» والرست «يستخدم فى الألحان الجادة» إلا من خلال "السميعة"، وهو ما يدل على النغم الفطرى فى صوته أعطاه الله له. ولم يبخل هذا الشيخ على محبيه به، فظل صوته يطرب حتى يومنا هذا بآيات الذكر الحكيم. بصوت يغوص بنا فى معان جميلة فى آيات الله.

وظلت قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل للقرآن محيرة منذ خروجه للنور وحتى يومنا فأداؤه الجديد والذى يحمل إثارة للعواطف والروح، لم يقلد أحدا فيه ولم ينافسه صوت آخر، جعله صاحب مدرسة مستقلة وجديدة فى القراءة، بل كان مصدرا لإلهام الملحنين والمطربين فى الأداء الموسيقى.

وتسببت طريقة وأداء الشيخ مصطفى إسماعيل فى القراءة فى جدل بين المتشددين الذين اتهموه إنه يتغنى بالقرآن، وذلك لعدم إدراكهم أن أداءه الصوتى لدرجة أنه فى إحدى المرات عام 1948 حاول متشددون أن يمنعوه من التلاوة فى الجامع الأزهر، وقاموا بسرقة الميكروفون ودكة القراءة قبل صلاة الجمعة، لمنعه من القراءة، وذلك بعد التشكيك أن أداءه فيه تلحين فى القراءة، وهو ما أدى إلى نشوب معركة بين "السميعة" للشيخ مصطفى الذين تجمعوا حوله بالألف وتصدوا للمتشددين ضده، وأصروا أن يقرأ الشيخ لهم.


2- النغم القرآنى

ورد الشيخ إسماعيل فى مذكراته على من يتهمونه بالتغنى بالقرآن، بأن هناك جهلا بأدائه، لأنهم لا يفرقون بين النغم الربانى فى القرآن والتغنى به. ويقول: "فيما يخص النغم القرآنى أنا أرى أن القارئ الذى ليس لديه إلمام بالنغم لا يعد قارئا وأن النغم يكمل ويزيد جمال الصوت ولكن لابد أن يضبط بقواعد القراءة الجيدة من خلال الحروف المضبوطة والوقف مضبوط والابتداء مضبوط، كل ذلك يكمل الصوت الجميل. وإذا اكتملت هذه الأدوات اقرأ على راحتك اقرأ بالبياتى وآخر من النهاوند واستعمل الصبا واستخدم مقام الحجازى، ولكن عليك الالتزام بمخارج الحروف".

ويضيف عندما أسرد من واقع خبرتى، أنصح القارئ الذى يقرأ بالنغم يتلو ما يريد وما يحلو له، ولكن هناك شرطا عليه أن يلتزم به أنه يدرك أن القرآن له حدود، ولابد أن يكون له وقف سليم فى قراءة الحروف التى تخرج من لسانه لابد أن تكون سليمة. ولابد ألا يغير أى شىء فى القرآن لأنه كلام الله فلا يجوز بأى حال أن يتلاعب فى ذات النص القرآنى سواء بتشديد أو مد أو خروج حرف أو موضع خطأ من القرآن.

وربما كان سر تميز مدرسة التلاوة المصرية للقرآن، عن باقى اللهجات العربية خاصة الخليجية منها، أنها حافظت على الالتزام الحرفى بالنص القرآنى مع تطعيمه بالصوت والأداء المنغم، وهى القاعدة التى يؤكدها الشيخ مصطفى إسماعيل فى مذكراته، قائلاً: "لا توجد مشكلة إطلاقاً فى النغم لأن النغم موجود فى كل الكلام نحن نتحدث الآن كلامنا فيه نغم، أى كلام فيه نغم حتى الكلام العادى، وكذلك القرآن فيه نغم"، مستشهدا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، "ليس منا من لا يتغنى بالقرآن".

تميز القراءة المصرية له منبع وجذور خاص به، كانت بدايته الطريقة التى يتعلم بها المصريون تلاوة القرآن فى الكتاب، وهى الذكريات التى يجمع عليها كل شيوخ القراء فى أنها كانت المصدر الفطرى لإلمامهم بالنغم القرآنى الخاص، خاصة أنهم كانوا يتعلمون فنون التجويد، وهى ذكريات خاصة حكى عنها الشيخ مصطفى إسماعيل الذى يؤكد أنه لا يمكن أن يعى أو يدرك أن تلاوته تحمل فنا خاصا، ولم يعرف ذلك إلا من خلال السميعة، وأيضا من خلال الملحنين والمنشدين، فيروى أنه فى أول مرة قرأت فيها فى القاهرة، بعد أن ذاعت شهرته فى مدن الدلتا، خاصة بلده طنطا، وكان سرادق عزاء فى القاهرة حضر إليه خصيصاً الشيخ درويش القاضى وحامد مرسى، وهما من كبار الملحنين والمنشدين فى مصر فى فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، وعندما سمعوا عن الشيخ مصطفى إسماعيل، حرصوا على أن يستمعوا لصوته، وكان السبب فيما بعد فى انتشاره.

وتدل الواقعة على أنه كان هناك اهتمام خاص بأصوات شيوخ القرآن، وانتشار السميعة والجماهير الخاصة لهم، لدرجة أن شهرتهم وأجورهم كان تفوق من يعمل فى الغناء.

فيحكى الشيخ مصطفى إسماعيل فى مذكراته، أن أم كلثوم كانت تخبره دائما، أنها لا تخرج لحفل غناء إلا وتستمع للقرآن بصوته وكانت كلما تقابله تقول له "حرام عليك يا شيخ أنت بتقول كل النغم أبق لينا حاجة نغنيها".

وخلقت مساحة البراح والتمازج بين الغناء وتلاوة القرآن، مساحة خاصة بين التلحين والتلاوة، لدرجة أن الموسيقار محمد عبدالوهاب، لم يكن يخفى إعجابه الخاص بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل، وكان يصفه بأنه القارئ الأول للجميع فهو قارئ الملوك والأمراء والصعاليك وهو الأول للفقراء والأغنياء.

وجاء وصف عمالقة الطرب أم كلثوم وعبدالوهاب للشيخ مصطفى إسماعيل فى قراءته لأنه صاحب صوت دافئ ملىء بالنغم الإلهى متشبع بإيمان خاص ذى نكهة طبيعية لمنتج طبيعى ولد فى وسط الدلتا المصرية.


3- ملك الصبا وعبدالوهاب

ونجد أن مساحة الاهتمام شملت مطربى العصر الذهبى للغناء فى مصر وعلى رأسهم عبدالوهاب وأم كلثوم بقراء القرآن، لم يكن قاصرا على الشيخ مصطفى إسماعيل، فنجد أن الشيخ أبوالعينين شعيشع فى مذكراته التى رواها لى، تحدث فيها عن حكايات وقصص جمعته بمحمد عبدالوهاب، المعروف عنه، بأن أذنه تلتقط الأصوات والنغم، فيذكر أبوالعينين شعيشع أن عبدالوهاب فى منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، طلب من أحد الصحفيين أن يجمعه به، بعد أن استمع لصوته، وذهب بالفعل إلى بيت عبدالوهاب بالعباسية، ودار حديث بينه وبين موسيقار الأجيال، عن النغم والطرب فى قراءته وسر الصوت الحزين لديه، وهو ما جعل عبد الوهاب أن يطلق على الشيخ شعيشع ملك الصبا.

يقول الشيخ شعيشع، فى اللقاء تحدث معى عبدالوهاب عن المقامات الموسيقية التى أؤديها فى التلاوة، ولكنى لم أكن وقتها مدركاً، لما يقوله ولم أكن أعرف بأمر المقامات، ولكنه كان يقول لى أنت "ملك الصبا" يا شيخ. وفى اللقاء كان يعد عبدالوهاب لحنه فى أغنية "الجندول"  التى مطلعها "أين من عينى هاتيك المجال يا عروس البحر يا حلم الخيال"، وطلب منى أن أرددها معه قبل أن يقوم بتسجيلها للإذاعة.

ويفسر الشيخ شعيشع أن اهتمام عبدالوهاب به، يرجع إلى أنه يعرف علاقته بالشيخ على محمود الذى يعد أستاذ عبدالوهاب والذى عمل فى تخت الإنشاد الدينى الخاص به فى بداية حياته، والسبب الثانى التشابه بين صوتى والشيخ محمد رفعت.

ويتحدث الشيخ أبوالعينين شعيشع عما جمعه بأم كلثوم من معاملة خاصة بعدما اتفق علماء الأصوات بأن صوت الشيخ أبوالعينين شعيشع يعد الصوت المذكر لأم كلثوم، أو توأمه الصوتى، مثل التلازم بين صوت فريد الأطرش وشقيقته أسمهان.

لذلك كانت أم كلثوم حريصة على أن تتعامل مع الشيخ أبوالعينين شعيشع، وتحرص أن تسمع صوته، كما كانت تأخذ استشارته فيما تؤديه من أغان جديدة، وحكايات أخرى نرويها فى العدد القادم، جمعت بين شيوخ القرآن والطرب وعلى رأسهم صوت العذب (طه الفشنى) وصوت التقوى (صديق المنشاوى)، فى كتاب تحت الطبع.