تفسير قوله تعالى " ولمن خاف مقام ربه جنتان "
( ولمن خاف مقام ربه جنتان ( 46 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 47 ) ذواتا أفنان ( 48 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 49 ) فيهما عينان تجريان ( 50 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 51 ) فيهما من كل فاكهة زوجان ( 52 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 53 ) ) .
قال ابن شوذب ، وعطاء الخراساني : نزلت هذه الآية : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) في أبي بكر الصديق .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا بقية ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن عطية بن قيس في قوله : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) : نزلت في الذي قال : أحرقوني بالنار ، لعلي أضل الله ، قال : تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا ، فقبل الله منه وأدخله الجنة .
والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره ، يقول تعالى : ولمن خاف مقامه بين يدي الله - عز وجل - يوم القيامة ، ( ونهى النفس عن الهوى ) [ النازعات : 40 ] ، ولم يطغ ، ولا آثر الدنيا ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى ، فأدى فرائض الله ، واجتنب محارمه ، فله يوم القيامة عند ربه جنتان ، كما قال البخاري ، رحمه الله .
حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " جنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " .
وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود ، من حديث عبد العزيز ، به .
وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه - قال حماد : ولا أعلمه إلا قد رفعه - في قوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، وفي قوله : ( ومن دونهما جنتان ) [ قال ] : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين .
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، عن محمد بن أبي حرملة ، عن عطاء بن يسار ، أخبرني أبو الدرداء ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ يوما هذه الآية : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، فقلت : وإن زنى أو سرق ؟ فقال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، فقلت : وإن زنى وإن سرق ؟ فقال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) . فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : " وإن رغم أنف أبي الدرداء " .
ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حرملة ، به ورواه النسائي أيضا عن مؤمل بن هشام ، عن إسماعيل ، عن الجريري ، عن موسى ، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبي الدرداء ، به . وقد روي موقوفا على أبي الدرداء . وروي عنه أنه قال : إن من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق .
وهذه الآية عامة في الإنس والجن ، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا ; ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
ثم نعت هاتين الجنتين فقال : ( ذواتا أفنان ) أي : أغصان نضرة حسنة ، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة ، ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) . هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة : إن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا مسلم بن قتيبة ، حدثنا عبد الله بن النعمان ، سمعت عكرمة يقول : ( ذواتا أفنان ) ، يقول : ظل الأغصان على الحيطان ، ألم تسمع قول الشاعر حيث يقول :
ما هاج شوقك من هديل حمامة تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أبا فرخين صادف طاويا
ذا مخلبين من الصقور قطاما
وحكى البغوي ، عن مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والكلبي : أنه الغصن المستقيم [ طوالا ] .
قال : وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ذواتا أفنان ) : ذواتا ألوان .
قال : و [ قد ] روي عن سعيد بن جبير ، والحسن ، والسدي ، وخصيف ، والنضر بن عربي ، وأبي سنان مثل ذلك . ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ ، واختاره ابن جرير .
وقال عطاء : كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة ، وقال الربيع بن أنس : ( ذواتا أفنان ) : واسعتا الفناء .
وكل هذه الأقوال صحيحة ، ولا منافاة بينها ، والله أعلم . وقال قتادة : ( ذواتا أفنان ) ينبئ بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن أسماء قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر سدرة المنتهى - فقال : " يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو قال : يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب - فيها فراش الذهب ، كأن ثمرها القلال " .
رواه الترمذي من حديث يونس بن بكير ، به .
( فيهما عينان تجريان ) أي : تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان ، ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) قال الحسن البصري : إحداهما يقال لها : " تسنيم " ، والأخرى " السلسبيل " .
وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين .
ولهذا قال بعد هذا : ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) أي : من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون ، ومما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
قال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظلة .
وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ، يعني : أن بين ذلك بونا عظيما ، وفرقا بينا في التفاضل .