عادل حمودة يكتب: كلمة السر فى نجاح محمد غنيم ومجدى يعقوب

مقالات الرأي



■ تعديل قانون كليات الطب لتخيير هيئات التدريس بين التفرغ للمرضى والبحث العلمى وبين فتح عيادات ومستشفيات خاصة ينقذ منظومة العلاج ويرد الاعتبار لمستوى خريجيها

■ قاموس الطب فى مصر: «ع» عزبة وعمارة وعيادة وعروسة وعربية.. «ى» يخت.. «ث» ثروة.. «ت» تجارة.. «ض» ضمير غائب فى أرقى مهنة إنسانية


تراجع الدكتور محمد غنيم عن دعوة ابنه وابنته وأحفاده منهما لقضاء شم النسيم فى المنصورة بسبب ضيق شقته التى يستأجرها هناك منذ سنوات بعيدة ولم يجد رغم براعته المهنية وشهرته العريضة مبررا لتغييرها.

لقد شيد الطبيب المستوعب آلام وطنه واحدا من أكبر مراكز علاج المسالك البولية فى العالم وشارك فى ثورتى يناير ويونيو وساهم فى وضع الدستور الأخير واختير عضوا فى المجلس العلمى الذى يقدم استشاراته للرئيس.. لكنه رغم ذلك كله لا يأكل فى وجباته الرئيسية سوى الفول والطعمية وسلطة الزبادى ولو شاء ترفا أضاف البيض المقلى لهما.

ولو وصفته بالزهد استنكر الوصف.. فهو يشعر بمتعة هائلة بما أنجز لا تصل إليها شهوة الثروة.. وستتأكد من صدقه عندما تراه منتشيا ممتلئا متجاوزا الجاذبية الأرضية وهو ينتقل من مبنى إلى مبنى فى مركزه الطبى المتميز راويا سيرة إنشائه منذ أن كان فكرة عابرة إلى أن أصبح حقيقة جامعية وبحثية وعلاجية مذهلة.

وأعترف أننى سمعت عن مركزه كثيرا.. لكننى.. لم أتخيله بالصورة والكفاءة والخبرة التى وجدته عليها رغم أنه مؤسسة تعليمية حكومية تتبع جامعة المنصورة.. فلم نجحنا فيه وفشلنا فى مثيله من المستشفيات الجامعية وعلى رأسها قصر العينى؟

السر فى كلمتين: «محمد» و«غنيم».. فقد تفرغ تماما لعمله.. رافضا فتح عيادة خاصة.. مصرا على أن يحذو حذوه كل من أدار المركز من بعده.. ونجح فى ذلك.. فالجيل الرابع من تلاميذه يديره بكامل طاقته وخبرته كل الوقت.

هنا.. نضع أيدينا على أزمة الصحة المزمنة فى مصر.

فى كل كليات الطب خارج أم الدنيا يعطى أعضاء هيئات التدريس فى مستشفياتها الجامعية كل وقتهم لعملهم فيها.. ولا يحق لهم فتح عيادة أو المشاركة فى مستشفى خارجها.. وإلا قدموا استقالتهم.. فالمهمة الأساسية لهم التفرغ للبحث العلمى لتطوير وسائل العلاج وتخفيف آلام المرضى واكتشاف أسلوب جديد فى الجراحة وطرق آمنة للتخدير والتوصل إلى هياكل جديدة للخدمة الصحية.

لكننا.. فى بلادنا سمحنا للأساتذة الكبار والصغار بأن يقفوا على السلالم.. لا هم متفرغون للتدريس والبحث العلمى ولا هم يتعاملون برحمة مع المرضى الذين ينتظرون فى عياداتهم الخاصة حتى مطلع الفجر فى زحام غير إنسانى يستغل فيه المرضى لتحقيق ثروات خرافية ربما لا تحققها تجارة المخدرات.

واستغل هؤلاء الأطباء مناصبهم الجامعية فى لافتات دعائية تزيد من الإقبال عليهم دون أن يجد أغلبهم وقتا للتدريس أو للبحث العلمى أو لأبحاث الترقى فانهار مستوى تعليم الطب ولم يعد أحد خارج مصر يعترف بشهاداته ولجأ البعض إلى سرقة أبحاث الترقى دون أن تكتشفها لجان المناقشة فى كثير من الأحيان.. فأعضاؤها ليسوا أفضل ممن تناقشهم.

إن البرنامج اليومى لمشاهير الأطباء فى بلادنا يبدأ مبكرا.. يمر الواحد منهم فى الغالب على المستشفى الذى يعمل به لمتابعة مرضاه.. وبعدها يكشف على مرضى جدد فى العيادة الخارجية.. ويخرج منها ليدخل غرفة الجراحة.. وربما يحضر اجتماع المساهمين فى المستشفى ذاته أو فى غيره.. ليطمئن على استثماراته المالية.. ولو كان متواضعا امتلك عيادة واحدة ذهب إليها بعد أن يطمئن أن زبائنها يغطون مقاعدها ودرجات السلم المؤدية إليها.. وأمام ذلك الحشد من البشر لا يجد أمامه سوى اختصار كل حالة فى دقائق معدودة لا تكفى لفحصها أو سماع شكواها أو تحديد العلاج اللازم لها بدقة.

وقد وصلت فيزيتا البعض إلى مئات الجنيهات بجانب الرشوة التى تدفع للممرضة وبقشيش التمرجى فى حالة من الاستغلال البشرى.. توصف بتجارة الألم وتتنافى مع مهنته شديدة الرقى.. كنا نصف صاحبها بالحكيم.

ويمتد الجشع إلى ما هو أسوأ.. إدخال المريض فى جراحة لا يحتاجها.. أو تعريضه للكيماوى بعد إيهامه بالسرطان.. أو وفاته بخطأ لا يحاسب أحد عليه.

وفى كثير من العيادات نجد فى نهاية كل يوم تاجر عملة يحول أرباح الطبيب إلى دولارات.. وفى كثير من الشركات التجارية والصناعية نجد كثيرا أطباء مساهمين فيها.

لقد تجاوز البعض الخمسة عين الشهيرة.. عزبة وعربية وعروسة وعيادة وعمارة.. تجاوزها إلى حروف أخرى.. ش شركة.. وشاليه م مزرعة.. ى يخت.. ق قصر.. ف فيللا.. ح حسابات بنكية.. أ استثمارات.. دون أن يتوقف عند حروف بعينها.. د تدريس.. ب بحث.. ت تطوير.. ر رحمة.. ض ضمير.

وتكتمل الصورة السوداء بالمؤتمرات الطبية التى غالبا ما تنفق عليها شركات أدوية ويجد فيها البعض وعائلته فرصة للسياحة والشوبنج على حسابها مقابل أن يروج لمستحضراتها.

وحسب القانون.. تختص الجامعات بالتعليم العالى.. والبحث العلمى.. وخدمة المجتمع.. والارتقاء الحضارى.. والمساهمة فى رقى الفكر.. وإعداد الإنسان المزود بأصول المعرفة وطرائق البحث المتقدمة والقيم الرفيعة ليساهم فى بناء وتدعيم المجتمع .

لكن.. هدفًا واحدًا من تلك الأهداف لا يتحقق.. والسبب أن القانون نفسه لم يجبر أعضاء هيئات التدريس على التفرغ لتلك المهام.. أستاذ الحقوق يفتح مكتب محاماة.. أستاذ الهندسة يساهم فى شركة مقاولات.. وأستاذ الطب وهو الأهم بالنسبة لصحتنا لا يراعى سوى مصلحته الذاتية.

والنتيجة.. إهدار مليارات من ميزانية الدولة دون توفير خدمات صحية مناسبة.. ودون تطوير لوسائل العلاج.. بجانب ضعف خريجى الطب إلى حد مؤسف غالبا وانهيار فرص عملهم فى الخارج.. ليتحول بعضهم من منتصر للحياة إلى وكيل للموت.

وليس فى العالم سوانا الذى ينفرد بتلك الظاهرة.. ففى كل المستشفيات الجامعية الأوروبية والأمريكية والآسيوية يخير أعضاء هيئات التدريس بين التفرغ لتعليم الطلاب وتنمية البحث العلمى وبين الاستقالة منها والعمل خارجها.. من أراد العلم يبقى.. ومن أراد المال يرحل.. وإن وفرت تلك المستشفيات دخولا لجهازها الطبى والبحثى تمنحهم حياة كريمة بجانب قيمة معنوية وشهرة علمية ومكانة اجتماعية لا يحظى بها غيرهم.

إن موهبة الدكتور مجدى يعقوب لم تتفتح إلا عندما تفرغ لأبحاث علاج قلوب الأطفال.. وكان نجاحه المتميز فى ذلك الكشف الجراحى سر حصوله على لقب سير الذى جعل منه شخصية شهيرة تمتلك من التقدير أكثر مما تمتلك من مال.

ويضرب الدكتور محمد غنيم مثلا أكثر روعة.. فقد تفرغ لمركزه مترفعا عن كل ما صادفه من إغراءات.. وشيد صرحا طبيا عالج فيه الغالبية بالمجان عند نفس المستوى الذى يكلف مئات الجنيهات.. مستمتعا بحب نادر تجده فى عيون كل من تعامل معه حتى إن أهالى المنصورة انحازوا إليه عندما فكر أحد المحافظين فى إقالته بدعوى أنه لم يكن فى انتظاره على الباب.. منتهى السخف والغطرسة.

لا أمل فى إنقاذ منظومة الطب فى مصر إلا بتغيير قانون الجامعات ليخير أعضاء هيئات التدريس بين البحث العلمى وتطوير المناهج وتعليم حديث للطلاب ومزيد من الدراسة أو احتراف التجارة.. لن يجدى كلاما عن تأمين صحى دون خبرات تؤمن به.. ولن نجد جراحة تسجل باسم طبيب مصرى دون بحث علمى مستمر.. ولن تتضاعف الخدمة الصحية فى مستشفيات يعمل فيها الأطباء نصف الوقت وبنصف الاهتمام.. ولن تثمر أجهزة متطورة تدار بخبرات ناقصة.

السر فى كلمة واحدة.. التفرغ.

من يطلب العلم ندعمه.. ومن يطلب المال نتركه.. مثلنا مثل غيرنا ممن بدأوا المشوار بعدنا.. وسبقونا.. وتفوقوا علينا.. ورحنا نستجدى الخبرة منهم.

إن التجارب الناجحة فى مركز مجدى يعقوب ومركز محمد غنيم تجبر من يعمل فيها على التفرغ ليكون عقله وقلبه وضميره وخبرته وأبحاثه وسمعته للمريض وحده عند نفس المستوى الدولى ودون مقابل.

وربما.. كان هروب مجدى يعقوب ومحمد غنيم بعيدا عن القاهرة منحهما فرصة النجاة من الحروب المتوقعة من مافيا الطب الخاص التى تدمر كل من يقف أمام جشعها.

لكن.. المشكلة أن وزراء الصحة والتعليم العالى وعمداء كليات الطب وأعضاء المجلس الأعلى للجامعات أصحاب مصلحة فى بقاء الوضع على ما هو عليه.

ولو كنت من أعضاء مجلس النواب لزرت مركز مجدى يعقوب أو مركز محمد غنيم ربما اقتنعوا بفكرة التفرغ فى كليات الطب إنقاذا للخدمات الصحية المنهارة والحائرة فى بلادنا.. وبشرط أن يمتنع الأطباء من أعضاء المجلس عن الذهاب.. فهم أيضا أصحاب مصلحة فى بقاء الحال على ما هو عليه، وإن كنت أتوقع أنهم لو ذهبوا هم أيضا سيشعرون بالغيرة من الحب الجارف الذى يحمله الناس فى المنصورة لمحمد غنيم وفى أسوان لمجدى يعقوب.. ربما.. آمنوا بقول السيد المسيح : ماذا ينفع الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه؟ .. أو بصيغة أخرى: ماذا ينفع الطبيب لو حقق ثروات قارون وخسر ضميره ؟